محتويات الموقع

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2009

تاريخ الحركة العمالية (1924 ـ 1956)م أحد أهم المرتكزات الأساسية (1 - 3)

في الذكرى الرابعة والخمسين للاستقلال 2010م
تاريخ الحركة العمالية (1924 ـ 1956)م أحد أهم المرتكزات الأساسية
في تاريخ السياسة السودانية (1 ـ 3)


إذا كانت ثورة 1924م تمثل منعطفاً هاماً في تاريخ السودان الحديث، إذ أنها كانت بداية لمولد الحركة الوطنية السودانية الحديثة التي قادت البلاد للحرية والاستقلال في مطلع عام 1956م، فإن أحداث كتيبة السكة الحديد بعطبرة والتي ارتبطت بتلك الثورة الأم، تجعلنا نستنتج استنتاجاً سائغاً بأنها هي الأخرى كانت رافداً من روافد العمل الوطني آنذاك وآية ذلك أن أسباب الثورة في هذه المدينة كانت تنبع من أسباب الثورة العامة بالبلاد، ومن أسباب أخرى خاصة بها. لقد كانت الثورة في عطبرة -والى حد كبير- هي ثورة كتيبة السكة الحديد، حيث كانت أغلب الأحداث وأهمها متركزة حول ما قامت به تلك الكتيبة من شغب وثورة في المدينة، كانت حصيلتها حوادث دامية أدت إلى مقتل وجرح عدد كبير من أفراد الكتيبة وتخريب ممتلكات المصلحة واضطراب شديد في حبل الأمن والاستقرار.
كانت قد مضت ثمانية وعشرون عاماً على وجود كتيبة السكة الحديد في عطبرة عندما قامت ثورة 1924م، إذ أنها ظهرت مع خط السكة الحديد الذي أنشئ من أجل غزو السودان في حملة كتشنر المعروفة (1896)م. وبمرور الوقت أصبحت جزءاً من النظام بالبلاد. وقد ظلت تلك الكتيبة تقوم بدور هام في بناء الخطوط وحراستها وحماية سائر ممتلكات السكة الحديد، هذا بجانب قيامها بأعمال كثيرة ليست من صميم عملها العسكري.
والحقيقة أن هذه الفرقة ورغم كونها عسكرية، كانت تتألف من المهندسين والفنيين المهرة الملمين بالأعمال الفنية والهندسية الخاصة بالسكة الحديد من نجارة وحدادة وبرادة.. الخ، مما جعلها ذات فائدة قصوى كعنصر تعليمي وحضاري للعمال السودانيين الذين كانوا حديثي عهد بمثل تلك الأعمال.
كانت للثورة في عطبرة والتي تبلورت وتجسدت في تمرد كتيبة السكة حديد، أسبابا عامة اشتركت فيها مع الثورة الأم يمكن تلخيصها في الآتي: وقد تمثل أول تلك الأسباب في فكرة وحدة وادي النيل وضرورة توحيد تحت التاج المصري بعد إجبار الانجليز على الجلاء من شطري الوادي، ولقد كان شعار (وحدة وادي النيل) أداة اتكأت عليها الحركة الوطنية السودانية في صراعها مع الاستعمار البريطاني، كما كان رمزاً استلهمته عندما غشيها بريق الحركة الوطنية المصرية، والشاهد أن كل حركة تحريرية تحتاج إلى رمز تجدد فيه طموحاتها، وكان البعض ينظر إلى وحدة وادي النيل من خلال حضارة مصر وتراث مصر وثقافتها العربية الإسلامية. وهذه بطبيعة الحال مصادر الهام كان يستعين بها الوعي القومي وهو يشيد بكينونته. وقد عبر الشعراء السودانيون عند هذا الجانب الرمزي على نحو ما نجد مثلاً في قصيدة العباسي (اسمعينا جنان).
أسفري بين بهجة ورشاقة وأرينا يا مصر تلك الطلاقة
وكفانا بالدين عروتنا الوثقى وبالضاد لحمة وصداقة
وكذلك التيجاني يوسف بشير في قصيدته (ثقافة مصر):
عادني اليوم من حنينك يا مصر رؤى وطوفت بي ذكــرى
كلما أنكروا ثقافة مصــــر كنت من صنعها يراعا وفكراً
جئت في حدها غراراً فحيا الله مستودع الثقافة مصـــرا
ورغم ذلك فإنه يبدو من الاوفق والأسلم أن نفس حركة اللواء الأبيض، بأنها حركة سودانية لحماً ودماً، وأنها كانت تعمل لخدمة المصالح السودانية بالتعاون مع الوطنيين المصريين، أكثر من أنها واجهة للقاهرة.
ـ وهنالك سبب آخر تمثل في الصلف والغرور والاستعلاء الانجليزي والتنطع والعنجهية المبالغ فيها، وقد عانى كثير من السودانيين من مثل تلك التصرفات التي لم تراع عرفاً ولا تقليداً، ولم تحسب حساباً لإباء وعزة نفس الفرد السوداني. وقد ساعدت تلك الممارسات في إيجاد وحدة في الشعور ضد المستعمر وكانت سبباً وجيهاً للثورة.
ـ يضاف إلى ذلك سلسلة من المظالم تمثلت في الضيق الاقتصادي والأزمات المالية المتكررة وضيق فرص التعليم وضآلة فرص التوظيف والكبت وكتم الحريات التي تصل إلى حد منع التجول في المدن بعد الساعة التاسعة مساء بحجة حفظ الأمن. كل ذلك ساعد على تكديس عوامل الثورة في نفوس السودانيين.
ـ ويمكن القول أن أحداث عام 1924م، كانت نتاجاً شرعيا لتطور التعليم في البلاد. فقد أسهمت المدارس بما نشرته من علم في أضعاف شوكة الاختلافات القبلية وشجعت على نمو الروح القومي. وآية ذلك أن خلفية التعليم المتماثل بين المتعلمين وطرق الحياة المتشابهة والدراسات بكلية غردون التذكارية والتحاقهم جميعاً بالوظائف الحكومية، خلقت كلها روابط حميمة بدلاً من الروابط القديمة القبلية.
ـ ومن زاوية أخرى فقد أرست السكة الحديد مقدمات ثقافية وسياسية قومية تم نقلها من خلال العابرين لأغراض التجارة أو التعليم أو السياحة أو بغرض التواصل الإنساني عموماً، ولقد كانت قطارات المصلحة وقطعها النهرية أشبه بمدارس متحركة عملت على نقل الثقافة إلى السودان، إذ ظلت الصحف والمجلات والكتب المصرية ترد إلى البلاد بلا انقطاع منذ الحرب العالمية الأولى 1924م، وليس من شك أن ورود مثل تلك المطبوعات له اثر بالغ الخطر في الفكر والسياسة والثقافة.
ـ لم تعمل الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)م والثورة التي اجتاحت البلاد العربية عام 1916م بزعامة الشريف حسين بن علي ، والي الحجاز، والمبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس (ودرو ولسون) Woodrow Wilson رئيس الولايات المتحدة ونشوء الحركة الوطنية المصرية، على استشارة روح المتعلمين السودانيين فحسب، بل ساهمت في بعث ونمو الروح الوطنية أيضا.
لم يكن تمرد كتيبة السكة الحديد بمعزل عن هذه الأسباب، ولكن ومع ذلك كانت له أسباب خاصة:
ـ سوء المعاملة التي وجدها أفراد الكتيبة من رؤسائهم البريطانيين
ـ ما أفادت به تقارير المخابرات من أن أفراد الكتيبة كانوا محرضين للقيام بالثورة من قبل بعض الموظفين المصريين بالسكة الحديد.
ـ سخط المصريين واستيائهم على سياسة حكومة السودان الرامية إلى تصفية الوجود المصري، المدني والعسكري بالبلاد، ذلك لان الحكومة لم يكن لها ثقة كبيرة في الوسطاء والسماسرة، ولهذا رأت أن أفضل طريق للتخلص منهم جعل الطرفين أصحاب المصلحة الحقيقية البريطانيين والسودانيين يقفان وجهاً لوجه.
ـ أما السبب المباشر والشرارة التي أشعلت الموقف، فكانت تتمثل في وصول صالح عبد القادر وكيل جمعية اللواء الأبيض ببورتسودان إلى محطة عطبرة في التاسع من أغسطس 1924م محروساً حراسة مشددة ورهن الاعتقال في قطار خاص في طريقه من بورتسودان إلى الخرطوم. ولدى وصول القطار اندلعت مظاهرة من كتيبة العمل المصرية بعطبرة. وفي اليوم التالي قامت الكتيبة بمظاهرة مسلحة انضم إليها بعض المدنيين وتسبب في إتلاف مباني السكة الحديد وورش الصيانة ومزقت العلم البريطاني وحطمت مكتب رئيس العمال البريطاني، وسرعان ما انتشرت روح التمرد لتشمل العاملين على السكة الحديد وخارج عطبرة. ومهما يكن من أمر فقد أمكن أخيراً محاصرة التمرد والسيطرة عليه ومن ثم اصدر الحاكم العام في الخرطوم أمرا بتسريح الكتيبة.
* الآن كيف أثرت تلك الأحداث في المسار الإداري والنضال العمالي في مرفق السكة الحديد؟
ـ كانت النتيجة الأولى والهامة التي تمخضت عنها تلك الأحداث هي: رحيل كتيبة السكة الحديد من عطبرة إلى أسوان ونهاية عملها بسكك حديد حكومة السودان، فبحلول اليوم الثلاثين من شهر أغسطس 1924م كان أفرادها من وصلوا إلى الأراضي المصرية. وكان ذلك آخر العهد بها.
ـ ولقد أعطى رحيل الكتيبة دفعة قوية لعملية السودنة في مرفق السكة الحديد فقد قامت السلطات بملء الوظائف التي شغرت بالسودانيين الذين سرعان ما برهنوا بعد تدريبهم على كفاءتهم ومقدرتهم مما شكل تطوراً هاماً ورصيداً طيباً للعمالة السودانية، ولا شك أن ازدياد حجم العمالة الحضرية بالمصلحة كان من أهم أسباب تكتل العمال ودفعهم للعمل النقابي والسياسي لاحقاً.
ـ وبطبيعة الحال، فقد اقتضت عملية السودنة مزيداً من الاهتمام بالتعليم الفني ففي عام 1925م، أنشئت مدرسة الصنائع بعطبرة الأمر الذي أدى إلى بروز طبقة عمالية ذات خبرة فنية جديدة، وفي كنف هذه المدرسة تأهلت معظم الكوادر العمالية التي حملت عبء العمل النقابي فيما بعد. ولهذا قيل بأنها قامت في هذا المجال بنفس الدور الذي قامت به بخت الرضا في مجال التعليم.
ـ ساهم غياب الكتيبة في أن تتخلص المصلحة تدرجياً من ذلك الطابع العسكري الذي تدثرت به منذ الغزو في 1896م وآية ذلك انه في عام 1925م تسلم إدارة السكة الحديد ولأول مرة مدير مدني هو المستر باركر C. Parker خلفاً للكونيل مدوينتر E. Midwinter ولعل هذا الطابع المدني قد مهد الطريق لمزيد من الحرية للعاملين ليسمعوا صوتهم للإداريين والمسئولين ومن ثم اخذ العمال يتحسسون طريقهم نحو آفاق أوسع وأرحب في مجال العمل الجماعي استوعب طموحاتهم وتلبي أشواقهم على هذا النحو الذي ذكره أحد قادتهم وحداتهم ، المناضل العطبراوي عبد الله بشير:
جمعية اللواء عقدت فيك آمالي
ومرحب بالصعاب الفيكي مقسومالي
أوهبتك جهودي ومهجتي وأعمالي
من أجلك أضحى بحياتي أهلي ومالي

سوادنا كريم وتحالفُه مصر الحرة
تسطع دولة في أفريقيا زي الدرة
من بعد الخمول والاستعانة المرة
تاريخ الجدود لازم يعيد الكرة
أدى تسريح كتيبة السكة الحديد إلى تطور هام في مجال حفظ الأمن، فقد مهد الطريق لقيام شرطة السكة الحديد التي بدأت عملها الفعلي في أكتوبر 1924م والتي أصبحت الوريث الشرعي للكتيبة في حفظ أمن المصلحة وحماية ممتلكاتها.
وهكذا كانت أحداث عام 1924م بعطبرة، مدينة العمال ومركز السكة الحديد بمثابة ضربة البداية في مسيرة العمال الظافرة في مجال العمل النقابي والسياسي، وآية ذلك أنها تمخضت عن زيادة واضحة في حجم الطبقة العاملة الحضرية والتي سرعان ما تسلحت بالمعرفة الفنية المطلوبة في مدرستها العتيقة، المدرسة الصناعية ومن ثم أخذت جموع العمال تبحث عن منابر فسيحة، تعبر من خلالها عن طموحاتها وأشواقها. وقد وجدت ضالتها في الأندية العمالية خلال الثلاثينات، أولاً. ثم العمل النقابي الصريح في الأربعينات من القرن الماضي. ثانياً. وسنتطرق لكل ذلك في أعدادنا القادمة بمشيئة الله.
استراحة العدد...
أنا عطبرة
شعر: الحاج عبد الرحمن
أو تسأل من أنا ؟!
أنا جنة المستقبل..
أنا قلعة أرسل ضياءً من علٍ..
أنا عطبرة أم الشباب العامل

أنا ان سكت فبين أحشائي
براكين تثور..
أنا عطبرة.. يا نعم عاصمة الحديد..
إن جاء زرعي عاصفاً
تنمو الازاهر من جديد
لن تجدب الأرض..
التي رويت بقطرات الجنود

أنظر ترى التاريخ يحضنني
كرمز للخلود...
ما ضرني حكم الضرير..
إذا تنكر للوجود..

الاثنين، 21 ديسمبر 2009

على هامش انعقاد الاجتماع الوزاري لدول الخط الحديدي القاري داكار – بورتسودان.. الخرطوم 10 ديسمبر 2009م

على هامش انعقاد الاجتماع الوزاري لدول الخط الحديدي القاري داكار – بورتسودان.. الخرطوم 10 ديسمبر 2009م

المشروع: (طبيعته وأهدافه)
فاتحة:
أتاحت لي دعوة كريمة من مدير عام هيئة السكة حديد الباش مهندس حمزة الفاضلابي ورفقة صفوة مختارة من قادة ورموز الهيئة لحضور ذلك الاجتماع الهام بغرض طرح وتفعيل وتسويق فكرة مشروع منظمة المؤتمر الإسلامي لخطوط السكك الحديدية القارية : داكار بورتسودان. وآية ذلك أن الدورة الحادية عشر للمؤتمر المنعقدة في الفترة ما بين (13 ـ 14 مارس 2008م) في داكار بالسنغال قد اعتمدت القرار الخاص بذلك الخط القاري ليقوم على متن خط الحج القديم والذي سوف يعبر أراضي سبع دول هي: السنغال، مالي، بوركينا فاسو، النيجر، نيجريا، تشاد، والسودان.
وليس من العسير الوقوف على خلفية ذلك القرار في ضوء علمنا بأن النقل يعتبر أحد أهم متطلبات البيئة الأساسية اللازمة لنمو الفرص الاقتصادية، حيث يلعب دوراً هاماً في صنع الميزة النسبية لأي اقتصاد أو ضياعها وفي ضوء الاتجاهات الاقتصادية الدولية الحديثة مثل: عولمة الأسواق، والتكامل الاقتصادي الدولي، وإزالة الحواجز أمام رؤوس الأموال والتجارة والأعمال وزيادة المنافسة، أصبح دور النقل أكثر حيوية وأكثر إلحاحاً.
والشاهد أن إحجام النقل والمرور في الدول الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي، خاصة في البلدان الأفريقية، اقل بكثير من مثيلاتها في البلدان المتقدمة. ولا يزال أمام الدول الأفريقية أعضاء المنظمة طريق طويل نحو دعم شبكة النقل بها خاصة شبكات السكك الحديدية وآية ذلك أن عولمة العملية الاقتصادية قد جعلت دور النقل الحديدي أكثر أهمية بالنسبة للنمو الاقتصادي الوطني لتلك البلدان، والتي أخذت تدرك الدور الحيوي الذي يمكن أن يلعبه النقل في تقوية الروابط الاقتصادية والاجتماعية في القارة وعطفاً على ذلك فإن يتحتم على حكومات تلك البلدان التوصل إلى اتفاق مشترك لتحسين تلك الروابط ودفعها قدماً وذلك من خلال تنمية شبكة سكك حديدية إقليمية على أساس خطوط متفق عليها.
وليس من قبيل الصدفة المحضة أن يقع الاختيار على السودان لعقد الجلسة الافتتاحية لوزراء دول الخط بعاصمته الخرطوم. وإنما كان ذلك لأسباب تاريخية وجغرافية. وآية ذلك أن السودان يمثل القطاع الأكبر من الحزام الأفريقي الممتد من داكار على ساحل المحيط الأطلسي غرباً إلى جيبوتي على ساحل البحر الأحمر شرقاً والمعروف تاريخياً: بالحزام السوداني ولما كان السودان وهو ثالث دوله، بعد مصر وجنوب إفريقيا تنال استقلالها فهو الدولة الوحيدة التي اختارت أن تحمل اسم الحزام دون غيرها، فقد أصبحت البلاد هي الرمز لها جميعاً ومن ثم كان طبيعياً أن تجتمع دول الحزام على السودان وتلتف حوله.
ومن ناحية أخرى فإن السودان يحتل الجزء الشمالي الشرقي من قارة إفريقيا. وهذا الموقع جعل منه المعبر الرئيسي بين شمال إفريقيا العربي وجنوبها الزنجي، كما انه ظل حتى منتصف القرن الماضي الممر الرئيسي لقوافل الحج والتجارة من غرب إفريقيا إلى الأراضي المقدسة وشرق إفريقيا.
وفي سياق متصل فإن تجربة السودان في مجال النقل الحديدي هي تجربة عريقة نسبيا ورائدة في إفريقيا. وآية ذلك انه ثالث بلدان القارة بعد مصر وجنوب أفريقيا. في مجال السكك الحديدية. هذا عدا أنه يمتلك أكبر شبكة منها في القارة (حوالي 4478 كيلو متراً).
المشروع: (طبيعته، وأهدافه):
طبيعته:
أن خطوط السكة المقترحة سوف يتم مدها من داكار في السنغال على الساحل الغربي لأفريقيا إلى بورتسودان على الساحل الشرقي للقارة لمسافة إجمالية حوالي 10.000 كلم منها 6.000 كلم سوف يتم تشييدها بجانب تأهيل المتبقي الموجود أصلا. هذا ويتكلف بناء الكيلومتر الواحد من الخط المقترح (مليون يورو) ويصل هذا بتكلفة المشروع إلى حوالي (6 مليارات يورو).
هذا ومن المفترض أن تمر شبكة السكك الحديدية عبر المسار التالي: (داكار - السنغال، باماكو - مالي، اوغادوغو - بوركينا فاسو، نيامي - النيجر، كانو - نيجريا، انجمينا - تشاد، نيالا - الخرطوم - بورتسودان - السودان). وسيشكل بناء هذه الشبكة المقترحة عاملاً هاماً في ربط ما تبقى من بلدان غرب وشرق أفريقيا مثل غامبيا، وغينيا، وجيبوتي، وأوغندا، وكذلك ليبيا. وستحتاج شبكات السكك الحديدية الموجودة في هذه البلدان إلى مد خطوطها لربطها بهذا المشروع. وعلى صعيد آخر، سوف تكون كل دولة من الدول الأعضاء مسئولة عن تدبير مواردها المالية لتمويل الجزء الذي يخصها من هذا الخط الذي يعبر أراضيها الوطنية.
وفيما يختص بالإطار الزمني للمراحل المختلفة لتنفيذ المشروع، فقد حدد بنمو عشر سنوات على الوجه الآتي، سنتان لأعمال المسح والدراسات الفنية والاقتصادية، وسنتان للاتفاق على المسارات المختارة وإعداد التصميمات التفصيلية، وسنة واحده لعمل ترتيبات مؤسسية، وخمس سنوات لتشييد الخط وبناء المحطات بما في ذلك الإشارات والاتصالات السلكية واللاسلكية.
جدير بالذكر أن هذا الخط القاري الهام سيخدم بطريقة مباشرة حوالي 250.601.291 نسمة هم جملة سكان الدول السبع الأعضاء موزعين على النحو التالي:
م القطر عدد السكان شبكة السكك الحديدية القائمة
1 السنغال 12.521.851 905 كيلو متر
2 مالي 11.716.829 729 كلم
3 بوركينا فاسو 13.400.000 622 كلم
4 النيجر 13.044.973 لا توجد شبكة أصلا
5 نيجريا 150.000.000 4332كلم
6 تشاد 10.763.638 لا توجد شبكة أصلا
7 السودان 39.154.000 4478كيلومتر

أهدافه: لا شك أن الدافع الأساسي للمشروع هو الانعتاق من نير الفقر والتخلف عن طريق فتح محور رئيسي للتنمية عبر حزام الساحل من اجل انتقال سهل للسلع والخدمات بين الدول المعنية، وتعزيز التجارة البينية بين دول منظمة المؤتمر الإسلامي.
كما أن فكرة عبور القارة من الغرب إلى الشرق ربما تسهل كذلك نقل الركاب داخل المنطقة ومنها إلى منطقة الخليج لأغراض دينية وهذا فضلاً عما ستنتجه من فرص كثيرة للعمل للكثير من الناس.
سيساهم هذا الخط بلا شك، في إنهاء عزلة بعض الدول الحبيسة المحصورة. وهي على وجه التحديد: بوركينا فاسو، وتشاد، ومالي، والنيجر، والتي تلجأ نتيجة لذلك لنقل معظم تجارتها على المحاور الشمالية الجنوبية، بينما تتقلص فرص التكامل التجاري والاقتصادي والإقليمي على خط (الشرق ـ غرب) فعلى سبيل المثال ربما يكون من المنطقي بالنسبة لتشاد أن ترتبط بخطوط الشحن عبر البحر الأحمر.
وحيث أن كثيراً من الأعضاء سوف تبنى على ما لديها من خطوط قائمة، فإن هذا المشروع سوف يسهم في إعادة تأهيل خطوط السكك الحديدية القائمة ورفع كفاءتها طبقاً لمعايير الدولية الحديثة.
وفي ظل العولمة وما نتج عنها من انكماش أطراف العالم في تكتلات قارية وإقليمية، فإن هذا المشروع سيدعم على الصعيد السياسي الوحدة الأفريقية وآية ذلك انه سيعمل على تقوية الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين شعوب القارة خاصة وان منظمة المؤتمر الإسلامي تدرك أهمية التواصل كقيمة إسلامية (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) الحجرات آية (13).
لكن لماذا النقل الحديدي على وجه التحديد؟ :
كما أسلفنا فإن من اجل حل مشكلة البلدان الحبيسة، وتقليل المسافة بين بلدان غرب إفريقيا وشرقها، وتحقيق مزيد من التكافل بين هذه الاقتصادات بعضها البعض وبينها وبين اقتصادات بلدان الشرق الأوسط واسيا، احتاجت البلدان الأعضاء إلى تنمية منظومة نقل كفء وقادر.
وإذا ما قيمنا تنمية الإمكانات الاقتصادية الكاملة في تلك البلدان نكتشف أن البنية التحتية الحالية للطرق وخدمة النقل بها تشكل على ما يبدو تراجعاً وليس دافعاً للتنمية. وبتحديد أكثر فإن التنمية المتعلقة بالزراعة والمرتبطة بغرض التنمية في الأحواض تتطلب وسيلة نقل ملائمة لنقل الأحمال الضخمة عبر المسافات البعيدة في اقل وقت، وبأقل تكلفة.
وعلى الرغم من التكلفة الاستثمارية العالية لمشروع داكار بورتسودان والاحتياجات الإدارية، فإن النقل بالسكك الحديدية يوفر عموماً وسيلة أفضل وأكثر كفاءة لنقل السلع الثقيلة من نقلها بالشاحنات على الطرق، وهذا يرجع بالدرجة الأولى للمزايا الفنية للسكك الحديدية ومنها:
1. يعتبر النقل الحديدي من ارخص وسائل النقل البري وأكثرها فاعلية من حيث النوع والكم. ففضلاً عن السعة الكبيرة، هناك ميزة تنوع المنقولات (مواد سائلة، مواد سائبة، ركاب، حيوانات، وقود، آليات...الخ).
2. انخفاض تكاليف التشغيل والصيانة، مع القابلية لزيادة المنقولات وزيادة السرعة دون أن يصاحب ذلك زيادة في استهلاك الطاقة مما يجعلها تتميز بانخفاض التكلفة كلما زادت المسافة بخلاف الوسائل الأخرى التي ترتفع معها التكلفة المباشرة للتشغيل كلما زادت المسافة، وتخدمها في ذلك ظروف فنية تتمثل في أن الانزلاق على الخط الحديدي نفسه يساهم في زيادة الحركة وتقليل استهلاك الطاقة.
3. ويبدو أن الخط الحديدي أثرا أكثر فعالية من الطريق البري أو النهري أو الجوي في دفع حركة العمران والاقتصاد الحديث وآية ذلك أن السكة الحديد هي الوسيلة الأولى في كمية الحمولة من البضائع والأشخاص.
4. يضاف لكل ذلك أن السكة الحديد تتميز بنظام متفرد لا يتأتى لغيرها من الوسائل، إذ تتمع بامتلاكها للخط الحديدي أو الطريق، بينما الشاحنات لا تمتلك الطرق وتدفع رسوم للعبور.
5. إلى جانب ذلك فإنه من الناحية النفسية دليل من الأدلة الدامغة على ثبات حركة الاتصال، لان الطريق الحديدي مثبت على الأرض، ومن ثم يصبح وجوده القاعدة الأساسية التي يبنى عليها الاستقرار العمراني والاقتصادي.
وعلى الرغم من هذه المميزات النسبية للسكك الحديدية، فلابد من التنويه إلى أنها وسيلة نقل مكملة وليست وسيلة منافسة لنقل الطوق.

الخميس، 10 ديسمبر 2009

بروفايل لأفندي من جيل اليقظة والاستقلال.. أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه

بروفايل لأفندي من جيل اليقظة والاستقلال
أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه: الأب الشرعي لنظام التعليم الحديث في السودان (1901 ـ 1996)م

فاتحة:
لم يوطن السودانيون -على حد تعبير الأديب الراحل الطيب صالح- أنفسهم بعد على أن يروا واقعهم مصوراً في مرآة التاريخ. وربما يفسر ذلك أن عدداً من الرجال الذين أسهموا مساهمات عظيمة في بناء المجتمع كلهم رحلوا دون أن يتركوا سجلاً لتجاربهم، بل حملوها معهم إلى مراقدهم، فخسر الناس بذلك خسارة لا تعوض. إلا أن هذه الفرضية لا تنطبق على أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه، لأنه بفضل حسه التوثيقي -حسب البروفيسور أحمد أبو شوك- استطاع أن يدون شطراً من تاريخ حياته السياسية في كتابه الموسوم بـ : (السودان للسودانيين) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1955م في وقت كان السودان يمر بمرحلة حرجة في تاريخ نضاله السياسي، وبتأرجح تقرير مصيره بين خيار الاستقلال التام وخيار وحدة وادي النيل. وقد استقام ميسم هذه السيرة بالجهد الذي بذلته ابنته الدكتورة: فدوى عبد الرحمن علي طه في كتابها الموسوم بـ : (أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه 1901 ـ 1969م) بين التعليم والسياسة واربجي، والذي صدر عن مطابع دار عزة للنشر والتوزيع بالخرطوم في عام 2003م.
السيرة والمسيرة:
لقد كان المرحوم من أبناء جيل اليقظة الذين نشأوا في كنف الاستعمار، وتعلموا في مدارسه وكلياته، وتدربوا في مؤسساته المهنية، ثم أصبحوا بعد ذلك يمثلون طبقة الأفندية التي حملت لواء النضال ضد المستعمر، وقامت بسودنة الوظائف المهنية والسياسية بعد الاستقلال.
ولد الأفندي عبد الرحمن علي طه في لحظة كانت حاسمة من تاريخ السودان، شهدت نهاية الدولة المهدية وقيام الحكم الثنائي. وكان ميلاده في عام 1901م بأربجي التي تقع على بعد سبعة كيلو مترات جنوب مدينة الحصاحيصا لأب يجمع نسبه بين قبيلة الصواردة المحس والجعليين المسيكتاب، ولأم تنتمي إلى فرع الجعليين الميرفاب. وهكذا ولد أفندينا في كنف جيل الهزيمة كما يسميه الدبلوماسي الشاعر محمد المكي إبراهيم. وكغيره من اضرابه آنئذٍ تلقى مبادئ القراءة والكتابة بالخلوة وحفظ نذراً من القرآن الكريم. ومنها انتقل إلى مدرسة المسلمية الأولية، ثم أكمل تعليمه الأولي بمدرسة رفاعة. ولتميزه الأكاديمي انتقل إلى كلية غردون بالخرطوم حيث درس الوسطى والثانوي بقسم المعلمين. وقد لمع اسمه في المناشط الثقافية والعمل المسرحي والمحاضرات والندوات التي كانت تعقدها الكلية لصقل مواهب الطلاب النجب.
وفور تخرجه في كلية غردون عام 1922م التحق بمصلحة المعارف حيث عين معلماً للغة الانجليزية بمدرسة أم درمان الأميرية. وعاصر في تلك الفترة الزعيم إسماعيل الأزهري الذي كان معلماً للرياضيات. ومن جملة تلاميذه بالأميرية: أمين التوم والتيجاني عامر. وفي عام 1927م انتقل مترقياً إلى كلية غردون التي كانت تعاني من نقص في الأساتذة بعد ثورة عام 1924م، فقد أبعد المصريون، وانتهت فترة عمل كثير من المدرسين السودانيين، ومن ضمن تلاميذه بالكلية آنذاك: الأستاذ سر الختم الخليفة رئيس أول حكومة بعد ثورة أكتوبر 1964م. انتقل بعدها في عام 1953م إلى معهد التربية ببخت الرضا. أي بعد عام واحد من تأسيسه.
في روضة المعارف: (1935 ـ 1948)م.
لقد اعتبرت التقارير الرسمية نقل الأستاذ المرموق إلى بخت الرضا بالدويم خسارة كبيرة لكلية غردون لأنه على صلة طيبة بطلاب قسم المعلمين، هذا فضلاً عن كونه من أعضاء هيئة التدريس الذين تميزوا بعطائهم الأكاديمي الثر، وعملهم المفيد في ترقية الحركة الكشفية في الخرطوم وأم درمان.
ومنذ التحاقه بالمعهد ارتبط اسمه بتدريب المعلمين، وإعداد المناهج الدراسية، والقيام بالتفتيش الفني للتعليم، وتقويم مسار التعليم العام بالبلاد. وتقديراً لعطائه المتفرد في هذا الشأن تمت ترقيته إلى نائب عميد بخت الرضا.
ويتحدث عنه عميد المعهد آنذاك الأستاذ: ف. ل قريفث Griffth في سياق وصفه لأعضاء هيئة التدريس بالمعهد فيقول: (ولعل نائب العميد كان أبرزهم. رجلاً دقيق البنية، معتدل القامة، يتحدث في ثقة وشجاعة تتخللها الدعابة، كما تتخللها الأسئلة التي كان يصوبها نحو شخصيات معروفة من مستمعيه. كان بوجدانه ينتمي إلى المدرسة القديمة، ويتمسك بالمبادئ الدينية والأخلاق في وقت كانت فيه الأخلاق قد تداعت أو كادت. وكان على استعداد لتأديب أبنائه في وقت تخلى كثير من الآباء عن هذه المهمة. وعلى هذا الأساس المتين من الأخلاق أخذ يستوعب الأفكار الجديدة بعد أن يفحصها ويتأملها جيداً، ويفكر في تطبيقات جديدة لها بحيث تصبح وكأنها أفكاره الشخصية. وكان على قدر كبير من الاهتمام بالعلاقات الشخصية والرأي العام. وهذه من خصائص الأشخاص الذين ينشئون في مجتمع يعتمد على العلاقات الشخصية أكثر من اعتماد المجتمع الحديث عليها. هذا وقد أكسبه، والحديث لا يزال لمستر قريفث، إخلاصه ووطنيته وإحساسه بالعلاقات الشخصية نفوذاً فريداً بين قدامى الوطنين من المعلمين. أما صغار المعلمين فقد كان في واقع الأمر الشخص الوحيد تقريباً الذي يهابونه ويبجلونه في نفس الوقت. أما بالنسبة لنا نحن الأجانب، فقد كان المرجع في أسلوب المعاملات اليومية، كما كان القدوة في الإخلاص للعمل الذي نذرنا أنفسنا له.
عطاء تربوي بلا حدود:
ويتضح من حديث المستر قريفث، الدور المحوري الذي لعبه الأفندي أبو عوف -كما يسميه أقرانه في إدارة معهد بخت الرضا- في ترتيب شبكة العلاقات الأكاديمية والاجتماعية التي كانت تقوم على نسيج خلاف يجمع بين القديم والحديث ويؤاخي بين إدارة المعهد الأجنبية وأعضاء هيئة التدريس الوطنين، وتوثق عرى الترابط بين طلاب المعهد الذين كانوا يشكلون ألوان طيف المجتمع السوداني الذاخر بالتباين العرقي والاجتماعي والثقافي. وشمل مجال إسهامه التربوي حقولاً تعليمية شتى، نذكر منها على سبيل المثال: الاهتمام بتعليم الكبار، وتعليم البنات، والتدبير المنزلي، والفلاحة البستانية، والمناشط الرياضية، ومكتبة النشر، ومجلة الصبيان.
كل هذه القيم المعرفية كانت تصب في أوعية الإعداد الوطني وربط الطلاب بتقاليد المجتمع السوداني وذلك من خلال جملة إصدارات للأستاذ عبد الرحمن علي طه: أشهرها كتابه الموسوم بـ : (سبل كسب العيش في السودان) الذي نظمه في شكل زيارات علمية لمناطق السودان المختلفة للتعرف على دقائق بيئاتها المحلية وأنشطتها البشرية، وبذلك استطاع (أبو عوف) أن يجعل من الجغرافيا أدباً ينشد داخل قاعات الدرس وخارجها كما جاء في قصيدته المشهورة:
في القلولد التقيت بالصديـق أنعم به من فاضل صديــق
خرجت أمشي معه في الساقية ويالها من ذكريات باقيـــة
فكم أكلت معه الكابيـــدة وكم سمعت (أورو ألـــودا )

مازلت في رحلاتي السعيدة حتى وصلت يامبيو البعيــدة
قدم لي منقو طعام البفـرة وهو لذيذ كطعام الكســــرة

وآخر الرحلات كانت عطبرة حيث ركبت من هناك القاطرة
سرت بها في سفر سعيــد وكان سائقي عبد الحميـــد
أعجبت من تنفيذه الأوامـر بـــــدقة ليسلم المسافر

كل له في عيشه طريقــة ما كنت عنها أعرف الحقيقة
فأبشر إذن يا وطني المفدى بالسعي مني كي تنال المجدا
هكذا كان أبو عوف صاحب دور مبدع في تطوير التعليم العام بالسودان إلى أن ودع بخت الرضا عام 1948م مرتحلاً إلى الخرطوم حيث شغل منصب أول وزير سوداني للمعارف قبيل الاستقلال. ولذا فقد وصفه الأستاذ: السر قدور: بالأب الشرعي لنظام التعليم الحديث في السودان. لأنه من وجهة نظره كان رائد التأصيل التعليمي وإحلال المناهج المرتبطة بحياة أبناء السودان وتاريخهم وأساليب نشاطاتهم الحياتية والمعيشية، مكان المناهج الدراسية الوافدة التي وضعتها الإدارة الاستعمارية مع بداية الخطوات الأولى للتعليم الحديث في السودان. وهكذا انتقل أبو عوف من دائرة العمل المهني التنفيذي إلى دائرة صناعة السياسة التعليمية العامة بالبلاد.
السودان للسودانيين:
كان الأستاذ أبو عوف من أكثر الناس تمسكاً وإيماناً باستقلال السودان، وقد اشترك في الوفود الأولى للمفاوضات التي دارت بين مصر وانجلترا بخصوص الاستقلال، المبدأ الذي كان لا يحيد عنه. وكان بذلك موضع ثقة من السيد عبد الرحمن المهدي راعي الحركة الاستقلالية. ولذا فقد كان مستشاره الأول، خاصة وقد تميز بالإخلاص للسيد، ولدعوة الاستقلال التي وضع من أجل تسويقها كتابه الموسوم بـ : السودان للسودانيين، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1955م، في وقت كان السودان يمر بمرحلة مخاض حرجة في تاريخ نضاله السياسي، وبتأرجح تقرير مصيره بين خيار الاستقلال التام، وخيار وحدة وادي النيل.
العودة إلى الجذور:
بقيام انقلاب 17 نوفمبر 1958م وحلول النظام العسكري، ضيفاًً ثقيلاً على أهل السودان، اعتزل أبو عوف العمل السياسي دون أن يعتزل العمل العام، وعاد مرة أخرى إلى قريته أربجي بالقرب من الحصاحيصا حيث نذر نفسه لإصلاحها وقضاء حوائج أهلها وغيرهم من أبناء المنطقة. وقد غادر العاصمة بلا رجعة خاصة وأنه لم يكن يملك فيها شبراً من الأرض أو عقاراً.
ويعلق الأستاذ حسن نجيلة على هذه النقلة النوعية قائلاً: (ولما صار العمل السياسي الحزبي تطاحناً حول الاستوزار والحكم عف عنه أبو عوف واحتقره، وعاد إلى وطنه الصغير في قريته الوادعة، لا ينعم بالهدوء كرجال المعاشات، بل يبدأ عملاً جليلاً مضنياً، فخطط القرية تخطيطاً جديداً وغرس في أهلها حب التعاون، فبنو وعمروا وأنشئوا المدارس والشفخانات والمساجد، وأسسوا من ثم مجتمعاً راقياً أعجب به الدكتور: التجاني الماحي واصفاً إياه: بأنه المدينة الفاضلة التي كان يحلم بها الفيلسوف: أبو نصر الفارابي.
وبعد هذا العطاء الدافق، والجهد المضني المتواصل، توفى أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه، وكانت وفاته في صبيحة يوم الأحد الموافق الثاني من نوفمبر عام 1969م بمستشفى الحصاحيصا. وقد نعاه عميد الصحفيين بشير محمد سعيد قائلاً : (رُوع السودان أمس الأحد بوفاة رجل من أبطاله الميامين، وقائداً من قادته المحنكين، خالد الذكر عبد الرحمن علي طه رائد نهضة السودان التعليمية الحديثة وأحد قادة الحركة الوطنية وزعماء الاستقلال. وقد اختاره الله إلى جواره فجر أمس الأحد في مستشفى الحصاحيصا اثر علة طارئة، فنقل جثمانه الطاهر إلى قرية أربجي التي أحبها بكل ما يملك من حب لذويه وخدمها بكل جهده وطاقته).
هذا ويعتبر كتاب ابنته الأستاذ الدكتورة: فدوى الموسوم بـ : أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه (1901ـ 1969)م بين التعليم والسياسة وأربجي. والذي اعتمدنا عليه في كتابة هذا المقال، يعتبر فتحاً جديداً في كتابة سير الأعلام في السودان، وآية ذلك أن مفرداته قد أسست على كم هائل من الوثائق والمعلومات التي حصلت عليها المؤلفة من مختلف المصادر وكذلك من أرشيف حكومة السودان وغيرها، ومن ثم أصبح الكتاب مرجعاً في نواحي متعددة في تاريخ السودان التعليمي والسياسي والاجتماعي. ومن هذه الزاوية يمكننا القول بأن سيرة أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه، على حد تعبير بروفيسور أحمد أبو شوك، هي إضافة مهمة بمكتبة الدراسات السودانية، ومرجع هام في كثير من القضايا المرتبطة بتاريخ التعليم والحركة الوطنية في السودان.
وفي سياق متصل، تجسد مشروع العودة إلى الجذور (في أربجي) قيمة من قيم الوفاء الصادق التي تجلت في سلوكيات صاحب السيرة الذي أعتزل العمل السياسي على المستوى القومي، ولكنه ظل على قناعة تامة بضرورة العمل العام في فضاء قرية صغيرة من قرى الجزيرة، كانت تمثل له ذكريات الطفولة. مراتع الصبا وأيامها العابثة، وتراث نفر طيبين خرج من بين أصلابهم وترائبهم، وأضحى يشعر بأن لهم في عنقه يد سلفت ودين مستحق.
وعند هذا المنعطف تؤكد سيرة الأستاذ عبد الرحمن علي طه أن العمل السياسي العام ليس الحقل الأوحد للعطاء والإبداع، بل أنها يمكن أن يتجسدا في فكر الإنسان وتطلعاته نحو الأفضل في أي حقل من حقول الحياة الإنسانية التي تهدف إلى تحقيق الفضيلة على أديم الأرض.
ختاماً ستظل أبداً سير العظماء معيناً لا ينضب للقدوة الحسنة ونماذج فريدة للتضحية والإيثار ونكران الذات. وأكثر من هذا سيظل استشهادهم جسراً تعبره الإنسانية إلى ذات أكثر كمالاً.

التاريخ طبيعته – موضوعه – طريقته – قيمته وأهدافه

التاريخ طبيعته – موضوعه – طريقته – قيمته وأهدافه

إن التاريخ عن طريق استقراء قوانينه، هو علم ما كان وما هو كائن وما ينبغي أن يكون. إنه علم الماضي والحاضر والمستقبل". · التاريخ في أوسع معانيه هو: " كل شئ في الماضي" بل هو الماضي نفسه.. أو بعبارة أدق ما نعرفه من هذا الماضي. فهناك تاريخ للنبات وآخر للحيوان وثالث للتربية ورابع للقانون.. الخ. ولكن التاريخ كمصطلح.. إنما هو تاريخ الإنسان.. فهو دراسة للنشاط الإنساني في البعد الزمني الممتد عبر ملايين السنين والذي نسميه الماضي.
طبيعة التاريخ:
لفظة تاريخ من حيث اللغة: غايته ووقته الذي ينتهي إليه. ولهذا يقال أرخ الكتاب.. أي تاريخه، وأرخ الحادث ونحوه: فصل تاريخه وحدد وقته. ولقد بدأت كلمة التاريخ حياتها كتعبير فني بعد ظهور التاريخ الهجري في عهد عمر بن الخطاب (634-644م). وآية ذلك أن هذه الكلمة لا تظهر في الأدب الجاهلي.. كما أنها غير مذكورة في القرآن الكريم ولا في الأحاديث النبوية. ولقد أصبحت كلمة تاريخ تحمل في العربية بعد ظهورها ومنذ زمن بعيد من المعاني على الأقل وهي:
1. سير الزمن والأحداث أي التطور التاريخي.
2. تاريخ الرجال.
3. عملية التدوين التاريخي ورصف وتحليله.
4. علم التأريخ والمعرفة به وكتب التاريخ وما فيها.
5. تحديد زمن الواقعة أو الحادث باليوم والشهر والسنة.
أما كلمة تاريخ "History" في اللغات الأوربية الحديثة، فهي يونانية الأصل. وقد أطلقها اليونان على ذلك النوع من الكتابة الذي مارسه هيردوتس "Herodotus" + 425 ق.م الملقب "بابي التاريخ" ويعني جزرها فعل النظر.. أو بالأحرى شاهد العيان وما يضيفه هذا الشاهد إلى تجربته الخاصة. والكتابة التي مارسها هيرودتس هي: رواية الأحداث الماضية. وبالعودة إلى معنى الكلمة في أبسط أشكالها هي التدقيق والتحميض. فتاريخ اليونان مثلاً يقصد به تحميص ماضي تلك الأمة، يختار منه المؤرخ الأحداث الهامة التي لها صلة قوية بالغرض الذي يبح من أجل الوصول إليه.
ومادمنا قد تعرضنا للفظة تاريخ في العربية، "History" في اللغات الأجنبية، فأنه يجدر بنا أن نشير إلى اللبس الذي ظهر حديثاُ على هذه اللفظة. فهي في العربية " من تأريخ" "بالهمز". تطلق تارة على الماضي البشري ذاته، وتارة على الجهد المبذول لمعرفة ذلك الماضي ورواية أخباره. ويظهر أن الذهن البشري ينتقل عفواً بين المعنيين دون تمييز دقيق بينهما. وحديثاً قام المؤرخ اللبناني قسطنطين زريف في كتابه: "نحن والتاريخ" بالقصوى لهذا الموضوع، ووجهة نظره تقوم على أساس أن استخدام لفظة "التاريخ" للتعبير عن حوادث الماضي أمر حديث الشيوع. وعليه فهو يعتقد أنه يمكن تجنب هذا اللبس بأن تطلق كلمة "التاريخ" "بالهمز" على دراسة الماضي. "والتاريخ" على الماضي ذاته.
موضوع التاريخ:
يقول د. كولنجود المؤرخ البريطاني في كتابه المشهور: "فكرة التاريخ": أن التاريخ نوع من أنواع البحث العلمي. وكلمة علم هنا تعني*: بلا شك من جهود الإنسان. أي الأعمال والانجازان التي حققها الإنسان في الماضي.
. طريقة التاريخ:
إن الطريقة التي يعتمدها التاريخ في نتيجة لأحداث الماضي إنما هي التحليل والتعليل في إبراز الأحداث ورصدها وتعينها والبحث من ثم عن حكمة من وراء ذلك. ويعتمد المؤرخ في كل ذلك على الآثار التي تخلفا عن الماضي والتي توجد عادة في أشكال شتى يصعب حصرها. وقد قسمت المصادر التاريخية قسمين: الروايا المأثورة، والمخلفات. والروايات مصادر تدل على الرغبة المقصودة من جانب الإنسان في نقل المعلومات وهي على ثلاثة أنواع:
1. الروايات الشفوية.
2. الروايات المكتوبة أو المطبوعة.
3. الروايات المصورة بما فيها الخرائط والرسوم.
أما المخلفات فهي بقايا غير شعورية أو ما بقى من اللغة والأدب وغيره من أنواع التعبير الفني والمنتجات الصناعية والقوانين والعادات.وهناك تقسيم آخر للمصادر من حيث أنها أولية أو مشتقة. وتسمى المصادر الأولية مصادر أصلية. وأحياناً تسمى مصادر فقط. وهي إما مخلفات مادية مباشرة، وإما نقش أو تعبير مباشر بأي طريقة من طرق النقش أو التعبير بقيت من العصر الذي ينتمي إليه. وقد تكون طرفاً أو جسوراً أو مباني أو آثاراً أو عملية.. الخ. وقد تكون ذكريات شخصية لحوادث شهدها صاحب.. الذكريات أو تقارير كتبها أحد من شهود الحادث أو نصوصاً للقوانين والمراسيم والأوامر والدساتير والأحكام القضائية والمعاهدات والتعليمات الرسمية والوثائق الاقتصادية. والمصادر المشتقة قد تكون ثانوية أي مثيلاً مبنياً على المصادر الأولية، وقد تكون من الدرجة الثالثة، أي مبنية على المصادر الثانوية.
قيمته وأهدافه:
وإذا كان الماضي.. كما أسلفنا – هو مجال التاريخ، فمعنى ذلك أن قيمة التاريخ مرتبطة بالضرورة بقيمة التاريخ مرتبطة بالضرورة بقيمة هذا الماضي لنا. فهل نحن حفاً محتاجون لدراسة الماضي.
1. التاريخ يفسر الحاضر:
لا جدال في أن التاريخ الذي يتابع الماضي وأحداثه وتطوراته ليربط بينما أداة لا غنى عنها في تفسير الحاضر الأمر الذي يساعدنا كثيراً في الوقوف على جذور المشكلات الراهنة وخلفياتها وبالتالي يجعلنا أقدر على* أيجاد الحلول المناسبة لها.فالماضي
2. التاريخ ومفهوم الوحدة القومية:
إن الوحدة القومية إنما تبني على ذكريات مشتركة ووجدان حاري وعقائدي مشترك. وعلى الجملة ففي التاريخ يلتمس وجدان. الشعوب وضميرها وتراثها ولغتها التي تكون منطلقا لوحدتها القومية. وآية ذلك أن هذا التراث الذي يرقد في التاريخ هو الذي يخلف الأجسام المشترك بين الجماعات وهو الذي يسهم بالتالي في الوحدة القومية. إن غياب الإحساس بالانتماء هو الذي جعل شاعر العربية- المتنبي.. لا يحفل كثيراً "بشعب بواب" من بلاد فارس ولا بسحرها وجمالها:
مغاني الشعب طيباً في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان
ولكـن الـفتى العــربي فــيها غريب الوجه واليد واللسان
3. التاريخ ومفهوم التربية:
رغم تعدد المدارس الفكرية واختلافها بالنسبة لمفهوم التربية، فان ما بهمنا منها مدرستان: المدرسة المثالية ومن أبرز زعمائها في العصور الحديثة فيلسوف الثورة الفرنسية جان جاك روسو +1778م الذي عرف التربية بأنها "كل ما نقوم به من اجل أنفسنا، وما يقوم به الآخرون من أجلنا بغية الوصول إلى كمال طبيعتنا. والمدرسة الواقعية ومن أبرز دعاتها الفيلسوف الأمريكي جون ديوي +1962م والذي عرف التربية بأنها: "العمل الإداري الذي يقوم به الراشدون تجاه الناشئة بغية إيصالهم بدورهم إلى مرحلة النضج"
وبرغم تعارض المدرستين فإنهما على اتفاق في إن من الأمور المطلوبة تربوياً "خلق المواطنة المستنيرة" "Benevolent Citvsen ship" وهذه لا تتحقق إلا إذا فهم النشئ مجتمعهم فهماً يوقفهم على حقيقة المؤسسات القائمة فيه فعلاً على اختلاف أشكالها من دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية… الخ. وهذا الفهم لن يحدث إلا على ضوء المعرفة التاريخية التي تبرز حقيقة ومغزى ذلك المؤسسات. وهذا الفهم هو الذي يجعل النشئ يتسامحون في نظرتهم وموقفهم من تلك المؤسسات، بل ويدفعهم للمساهمة فيها والعمل على تنميتها وتطويرها.ومن ناحية أخري فإن الوقوف على ماضي الأمة يجعل الأبناء يدركون حقيقة التضحيات التي بذلها أسلافهم وفي سبيلهم، زمن ثم يحفزهم هذا الإدراك للمحافظة عليها*. بل والإضافة إليها كماً وكيفاً. والشاهد أن تجارب الماضي تبقى دائماً هي الحصن المنيع للتجارب والخبرات الإنسانية في كافة المجالات. على حد تعبير لورد آكتن (Lord Acton) المؤرخ البريطاني: (History is the mighty tower of experience) .
4.المساهمة في تنمية الفعل:
إن الوسيلة التي يعتمدها التاريخ في تتبعه لأحداث الماضي إنما هي التعليل والتحليل، ولاشك أن تكرار مثل هذا النشاط يساعد على تنمية ….. التحليل والتعليل والقدرة على التذكر والتخيل والبناء مما يقوي وينمي مقدراتنا على مواجهة مشكلات الحياة.
5. المساهمة في معرفة الذات:
إن من بين أهداف التاريخ معرفة الإنسان لنفسه. في حين أن معرفة الإنسان لنفسه لا تقف عند مجرد معرفته بميزاته الشخصية التي تفرق بينه وبين إنسان آخر، إنما تعني أن يعرف طبيعة كانسان. إن معرفتك بنفسك.. هذا الشعار الذي طرحه سقراط في القرن السادس قبل الميلاد "أعرف نفسك "Know thy self" معناه في أول الأمر أن تعرف ما يراد "بكلمة إنسان" إن معرفتك بنفسك معناها معرفة ما تستطيع أن تفعل وما دام لا يوجد إنسان يعرف ماذا يستطيع أن يفعل حتى يقدم بالجهود فعلاً، فإن الطريق الوحيد إلى معرفة ما يستطيعه الإنسان هو الجهد الذي بذله فعلا. من هذا يتضح أن قيمة التاريخ ترجع إلى أنه يحيطنا علما لأعمال الإنسان في الماضي، وأذن بحقيقة هذا الإنسان. وفي ذلك يقوم المؤرخ البريطاني لورد اكتن :Lord Acton" "History is not a burden on the human memory, but it is an illumination for the Soul" " إن التاريخ ليس عبئا على الذاكرة، وإنما إضاءة للروح".
6. المساهمة في تنمية الأخلاق:
وإذا علمنا أن دراسة التاريخ لا تعني فقط …… الحروبات والغزوات والأحداث السياسية فحسب، وإنما تعمل بجانب ذلك على الترجمة لعظماء الإنسانية والوقوف على تاريخ الأديان والعقائد.. أدركنا مدى تأثير وفعاليته في تنمية وإثراء الأخلاق والقيم والمثل العليا للإنسان.
7. من وعى التاريخ في عمره:
أضاف أعمارا إلى عمره والعمر المضاف هنا من مقدار الحياة وليس مقدارا من السنين. إن لنا كأفراد فكر واحد.. وشعور واحد.. وخيال واحد. وبقراءة التاريخ يكون لنا أكثر من فكر.. و أكثر من شعور.. وأكثر من خيال.. ومن ثم تمنحنا قراءة التاريخ أكثر من حياة.
ولا بد في الختام من الإشارة إلى هذه الكلمات النابضة بالحياة لثلاثة من الأعلام.. شوقي.. وأمرسون "Amerson"- وبرندامدرسل "Russell"
أما شاعرنا شوقي فيقول في قصيدته "الرحلة إلى الأندلس" والتي جعلها:
اِختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسي اُذكُرا لِيَ الصِبا وَأَيّامَ أُنسي
حَسبُهُم هَذِهِ الطُلولُ عِظاتٍ مِن جَديدٍ عَلى الدُهورِ وَدَرسِ
وَإِذا فاتَكَ اِلتِفاتٌ إِلى الما ضي فَقَد غابَ عَنكَ وَجهُ التَأَسّي
أما العلامة أمرسون +1882م الشاعر الفيلسوف الأمريكي فيقول: " لابد أن نؤمن بما تنطق به السنون والقرون.. لا بما ينطق به الساعات والدقائق إن ماضي البشرية لم يمت.. فإن الإنسان تاريخ.. والتاريخ تجمع للماضي في الحاضر.. وضغط للحاضر على المستقبل. والموجود الحالي لم ينبثق من العدم.. وإنما هو ثمرة لجهود متواصلة قام بها الإنسان منذ فجر الخليفة.
والواقع أن العالم البشري كما نراه اليوم.. إنما يحمل ذكرى سقراط وأفلاطون وديكارت وموزار وماخ وشكسبير وغير هؤلاء. فليس عظماء الإنسانية موتى تحتضنهم أضرحة أو متاحف، وإنما هم شواهد حية ترسم وتنير أمامنا الطريق الذي سكنه الإنسانية في سبيل تحررها.. ابتداء من عهود الحيوانية، السحيقة حتى يومنا هذا. أما برزامدرسل الفيلسوف البريطاني 1962م "إن الطفل الذي يجرح نفسه يبكي.. وكأن الدنيا كلها أحزان "ذلك لأن عقله الصغير ينحصر في الحاضر فقط. إن الصبي يعيش في يومه.. والرجل الكبير يعيش في عامة.. والمؤرخ يعيش في حقبته. أما الفيلسوف. فإنه يعيش في الأبدية. فكل حادث عنده إنما هو قطرة ضئيلة وعابرة في الكون الغامض في بدايته ونهايته.
الشاهد أن التاريخ ذاكرة الأمم، وحينما تتجافى أمة عن تاريخها ومكونات أصلها وتراثها تصبح كما ضائعا.. وهملا هاملاً. والأمم الجديرة بالاحترام تحمي تاريخها وتستخلص منه الدروس والعبر، إذ أن خبرات الماضي خير معين وزاد على تحديات المستقبل. ألم نقل منذ البداية أن التاريخ عن طريق استقراء قوانينه هو علم ما كان وما هو كائن وما بنبقي أن يكون.

المرأة السـودانية بيـن الامــس واليـوم

المرأة السـودانية بيـن الامــس واليـوم

يظـل موضوع المرأة في كل التاريخ البشري يمثل معضلة أو أشكالية أو مشكلة معقدة ذات أوجه متعددة، منها الاجتماعي والمجتمعي والوجودي والسياسي والثقافي .
وقد اختصرت الحكمة الدارجة هذه الوضعية المتميزة – سلباً أو إيجاباً حين قالت : (ابحث عن المرأة ) أو حين جعلتها وراء عظمة الرجل أو سبب غير مباشر لانجاز الانسان على هذه الأرض ، فالاهتمام بالمرأة مسألة أصيلة في أي تفكير يسعى الى فهم افضل للعالم ثم يحاول تغيير هذا العالم.
ودور المرأة حاسم في التنمية والنهضة . وهذا ليس اكتشاف
منظمات وهيئات دولية معاصرة ، فقد سبق للمرأة أن لعبت دورها في عملية الإنتاج البسيط والتقليدي ، كما أنها شاركت في السلطة السياسية ، وعرفت المجتمعات القديمة ملكات وقائدات خلدهن التاريخ إذن فإن موضوع المرأة يتحدد باستمرار ويأتي في أشكال جديدة في حقب تاريخية مختلفة ، وهو موضوع لا ينضب ولا يتوقف ، طالما ظلت الحياة مستمرة ومتحركة . ونحن لا نفتعل مناقشة ومعالجة وضع المرأة ودورها باعتباره ( موضة) أكاديمية أو بحثية ، بل لأنه جوهر الأسئلة التي تفرض نفسها على أي مجتمع ينشد التقدم والنهوض.

الزمكان
السودان هو اللفظ الذي تعرف به جهورية السودان . ويرجع أصله الى الاسم العام الذي استخدمه العرب للجنس الأسود الوارد عليهم من أفريقيا ، ثم اصبح هذا اللفظ يستخدم اصطلاحاً للدلالة على المنطقة الجغرافية التي تمتد من ساحل البحر الاحمر وتنتهي في الغرب عند ساحل المحيط الاطلسي . وتشمل تلك المنطقة السودان ، اثيوبيا ، تشاد ، افريقيا الوسطى ، النيجر ، مالي ، غانا ..الخ , ولكن استقر هذا الاسم وتحيز لتعرف به جمهورية السودان ، واختارت تلك البلاد اسماء لها غير اسم السودان .
ولقد نهض في إطار الحقبة السنارية أول كيان سياسي اسلامي وذلك في بداية القرن العاشر الهجري- السادس عشر الميلادي 910هـ - 1504م . وامتدت هذه الحقبة ثلاثمائة وسبعة عشر عاماً (1504 – 1821)م حيث جاءت قاصمة الظهر التي انهت هذه الحقبة على يد ولاة الغازي محمد على باشا والتي اجتاحت جيوشه السودان وانهت وجود دولة السنار الاسلامية ، وقد خضع السودان لمدة أربعة وسنين عاماً لقبضة النخبة التركية المتمصرة (1821 -1885)م الى أن جاء الخلاص ممثلاً في حركة الجهاد التي قادها محمد احمد المهدي وخليفته عبد الله التعايشي اللذان استمرت حقبة حكمها زهاء الأربعة عشر عاماً (1885-1898)م ثم انتقلت مقاليد الأمور وبقوة الحديد والنار الى الانجليز الذين حكموا البلاد تحت ستار علمي دولتي الحكم الثنائي (مصر وبريطانيا) سبعة وخمسين عاماً (1899-1956)م ليطل على السودان فجر الحقبة السودانية أو الوطنية والتي لا يزال المجتمع السوداني يتقلب في طياتها.
اوضاع المرأة ومكانتها:
ظلت الدراسات الأكاديمية حول مكانة ودور المرأة السودانية تعاني من الضعف الشديد حتى وقت قريب . وجاء قرار الأمم المتحدة لعقد المرأة (1976 – 1985)م بمثابة دفعة كبيرة للحركة النسائية في العالم ، انكب من بعدها الباحثون لاعداد الدراسات والكتب حول أوضاع المرأة . وكان من الطبيعي أن يتطور وينمو الاهتمام بدراسات المرأة في السودان نتيجة لذلك ، إلا أن المكتبة الأكاديمية لا زالت تعاني من الضعف في تناول قضايا المرأة ليس في السودان وحدة بل في بقية انحاء العالم العربي والإسلامي . وهذا ستناول فيما يلي أوضاع المرأة في تلك الحقب التاريخية المختلفة – السالفة الذكر.
أولاً : في الحقبة السناريـة (1504 -1821)م
إن القلم ليعجز عن رسم صورة لما ظلت تعانيه المرأة في العصور القديمة من اضهاد ونبذ وعزل، فقد كانت تعامل بدونية وتلصق بها كل الصفات الذميمة، فتوصف تارة بالشيطان وأخرى بالافعي . أما في الجاهلية فقد كانت تدفن حية مخافة الفقر والعار ، وفي بلاد اليونان – مهد الحضارة الأوربية – خولت قوانين البلاد التخلص من أطفالهم بتركهم عرايا في البرد القارس على قمم الجبال ، فأرض اليونان لم تكن تتحمل بسبب ضيقها وندرة الأراضي الخصبة بها – زيادة السكان- فلجأ شعب اليونان الى امتداح الأسرة ذات الطفل الواحد – كوسيلة للحد من تلك الظاهرة .
ولقد مثلت فترة السلطنة الزرقاء عهدا انتقاليا من سيادة المسيحية والوثنية الساذجة وجاهليات النوبة الى سيادة الاسلام في السودان وشيوع اللسان العربي وانحسار اللهجات المحلية – وبالرغم من أن دولة الفونج أسلامية ولغتها عربية ، إلا أن الإسلام لم يتمكن من التغلب على الممارسات الدينية والاجتماعية القديمة بين عامة الناس . وكان من المنتظر أن تتغير أوضاع المرأة في ظل تلك السلطة المسلمة، أذ يعتبر الإسلام بمثابة ثورة كبرى بالنسبة للمرأة العربية . فقد كان مجتمع الجزيرة العربية يخطو خطوات واسعة في ظل النظام الأموي ، فكان وأد البنات على اعتبار المرأة عبيئاً اقتصادياً ومصدر عار يحب التخلص منه وبالطبع هذا قمة التمييز والاضطهاد . لقد كان وضع المرأة مزرياً ، كانت تورث كالمتاع وكانت تسبى وتباع كرقيق وتقتل بغير ذنب سوى أنها امرأة . (وإذا المؤدة سئلت بأي ذنب قتلت )وكانت تمتهن انسانيتها وترغم على ممارسة البغاء لذلك كان ظهور الاسلام حينها طفرة لصالح المرأة ، إذ اهتم الاسلام بالمرأة المضطهدة المسحوقة ، فحرم وأدها وافرد لها سورة خاصة بها عالج قضاياها في آيات كثيرة كما خاطب الرجل على قدم المساواة.
لقد جاء الإسلام بالمساواة بين جميع البشر ، غني وفقير ، رجل امرأة ، وجعل الله سبحانه وتعالى معيار التمايز بين بني الانسان رجالاً ونساءاً هو التقوى وقال(ص) : ( الناس سواسية كاسنان المشط ).
تقول أنه بالرغم من دولة الفونج اسلامية فإن الممارسات الفعلية للناس لم تكن كلها من تأثير الوافد الجديد (الاسلام) وإنما اسهمت الى حد كبير الثقافات المحلية فالعادات والطقوس في المناسبات الاجتماعية كالزواج والختان والولادة والموت ورثها الناس من سكان البلاد الأصليين السابقين لدخول العرب في الاسلام.
يضاف الى ذلك أن المجتمع السوداني كان يعاني من عدم الاستقرار وأية ذلك تفشي الحروب والمجاعات والأوبئة. كل ذلك اضعف قدرة الناس على العمل المثمر ، وعليه فقد كان الفقر هو طابع الحياة آنذاك. فالذي يقرأ طبقات ود ضيف الله يرى اضفاءه بالكسرة التي يقدمها المشايخ للتلاميذ والمريدين والضيفان يعلم انها كانت شئياً عزيزاً.
ولذلك كانت صفة الكرم من ارفع الصفات واعظمها . ونستطيع أن تستنتج استنتاجاً سائغاً أنه في مثل هذه الأوضاع الحزينة تكون المرأة الأكثر حزناً والأكثر فقراً بين الفقراء والأكثر بؤساً بين البؤساء بسبب تلك النظرة الدونية والمعاملة القاسية التي وجدتها من المجتمع.
وعلى امتداد مملكة سنار وما كان يتبعها من ولايات ومشيخات وعلى امتداد ممالك الفور وتقلي والمسبعات والتي كان يحكمها سلاطين سودانيون ساد المجتمع نظام إقطاعي قبلي تبدو عليه بعض سمات ما يسميه الاقتصاديون اليوم الاقتصاد المعيشي أو اقتصاد الكفاف .
وفي هذا المجتمع الاقطاعي القبلي عاشت المرأة السودانية نوعين من الحياة. حياة الرق ، إذ كانت الأمة تساهم مع بقية الرقيق في أعمال الزراعة ، تلفح الأرض وتزرعها وتسقيها وتجمع المحصول وتساعد في تسويقه. وترعى الماشية وتحلبها وتستخرج من البانها السمن وتصنع من جلودها الاسرجة واغطية السيوف والسكاكين وطبول الفرح والموت والحرب . هذا بجانب عملها داخل المنزل أذ تقوم بكل الأعمال فترعي الأطفال وتسهر على راحة اسيادهم وسيداتها.
اما المرأة السيدة ، فكانت عموماً عاطلة من الناحية الاقتصادية وهي التي اتخذها الرجل كأداة تنشيط وباعث متعة له ، إذ كان يحتاج للراحة الجسمانية والنفسية حتى يقوم بمهامه في مجتمع كان يعتمد اساساً على القوة العضلية.

نأتي الأن على ذكر نصيب المرأة من التعليم والمعرفة عموماً والتي ما من سبيل الى ادراك تقدم ولا احراز نهضة لأمة من الأمم ولا شعب من الشعوب الابها فضلاً عن كونها لأزمة لتحرير العقل من سلطات الإدارة ووسيلة من وسائل تطوير شخصية الانسان وزيادة وعيه ، هذا بالاضافة لدورها الهامة في التغيير الاجتماعي.
أما عن نصيب المرأة من التعليم ، فالشاهد أن مؤلف الطبقات وهو أهم مصدر عن تلك الفترة ، لم يترجم لأي امرأة ضمن الذين ترجم لهم من العلماء والشعراء والصالحين. وليس هذا دليلاً على أن المرأة السودانية لم تساهم بأي نصيب في حياة البلاد. فالمرأة السودانية ساهمت نصيب ولو محدود جداً في العلم والتعليم . ويبدو أن ود ضيف الله لم يجد من أثر للمرأة السودانية ونصيبها في التعليم لأسباب من أهمها أن مركز المرأة الاجتماعي ولا شك ، كان دون مركز الرجل كما هو الحال في اغلب البلاد العربية آنذاك، فنصيبها إذن قليل ومنها أنه لم يكن منهن من برزن ووصلن الى مستوى الرجل مما يستحق تخليد الذكر.
غير أننا نعثر في الطبقات على بعض الحالات لنساء اخذن خطهن من العلم والمعرفة ، وعلى سبيل المثال فاطمة بت جابر وهي اخت اولاد جابر بمنطقة الشايقية، وقد اشتهرت بالعلم والصلاح وكانت تدرس القرآن بمسجد اخوتها بالقرب من مدينة نوري ومن النساء الشهيرات ايضاً عائشة بنت القدال التي كانت تدرس القرآن بجزيرة توتي . وممن تعلم عندها الشيخ خوجلي بن عبد الرحمن صاحب القبة المشهورة في حلة خوجلي بالخرطوم بحري وفي غرب السودان شيخات وفقيهات انشأن الخلاوي بأنفسهن وأكثرهن من قبائل الفور والبرفو والمساليت.
نخلص من ذلك انه خلال الحقبة السنارية لعبت المرأة امة كانت ام سيدة دوراً فاعلاً بذلت فيه الكثير من الجهد الجسماني والفكري وانعكس ذلك في جميع انشطة الحياة .. في الحرب والتجارة والرعي والزراعة وفي الحياة الاجتماعية تعلما و تعليماً مع ما بذلته بسخاء في رعاية زوجها واولادها حتى كسبت بذلك وضعاً هاماً في تاريخ بلادها .
ثانياً :- في العهد التركي – المصري : (1821 – 1885 ) .
رغم ما انتظم البلاد من عمران نسبي وتقدم في مجالات الادارة والزراعة والثروة الحيوانية والخدمات في ذلك العهد ، الا ان المفهوم العام بالنسبة لوضع المرأة جعلها لا تساهم في أي نشاط اقتصادي اجتماعي . وقد تبلور هذا الوضع في شكل نظام متكامل هو نظام الحريم الذي كان سائداً في ممتلكات الدولة العثمانية آنذاك .
ثالثاً :- في عهد دولة المهدية ( 1885 – 1898 ) م :
في هذا العهد سمح للمرأة بالتعليم الديني في حدود ضيقة جداً واضيف اليه راتب المهدي . وقد الغت المهدية التعليم النظامي الذي جاء به الاتراك . والشاهد انه لم يعد للمرأة المنتجة في المجال الاقتصادي أي وجود . والحقيقة ان مبدأ لا شئ يعلو فوق صوت الجهاد فضلاً عن المجاعات والاوبئة قد اصاب البلاد بنكسة اقتصادية خطيرة ادت في نهاية الامر الي مجاعة سنه سته 1306 هـ (1888-1889) م. وبفضل تلك العوامل مجتمعة تناقص عدد سكان البلاد بشكل كبير اذ انخفض الي اثنين مليون ونصف المليون في عام 1898م , بعد ان كان حوالي ثمانية ملايين في عام 1881 – عام اندلاع الثورة المهدية .
رابعاً : في عهد الحكم الثنائي ( 1899 – 1956 )م :
كان التعليم من اهم البنيات التحتية التي ادخلها الاستعمار في السودان مدفوعاً بحاجته لكوادر فنية وادارية لتسيير دولاب العمل . اما في مجال تعليم المرأة فتعتبر المدرسة التي قامت بمجهود الشيخ بابكر بدري في رفاعة عام 1907 بمثابة ضربة البداية في مجال تعليم المرأة . والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا تأخر تعليم البنات عن تعليم البنات ؟ والاجابة تبدو واضحة من خلال النظرة التي يوليها المجتمع السوادني للمرأة ، وان هذه النظرة كانت تتميز بعزل المرأة والمحافظة عليها . والنظرة الي فكرة تغيير هذا الوضع بشئ من الشك والريبة ، علي ان النساء انفسهن كن يعتقدن ان أي تغيير يعتبر مخالفاً للتقاليد . وقد كرست الامثال السودانية النظرة للمرأة ككائن بيولوجي مهمته الاساسية الامومه تماماً كما كرست التميز ضدها كانثي وكمواطنة . ومن تلك الامثال علي سبيل المثال :- الضكير ولو كان فوير – والمرأة كان فاس ماتشق الرأس – والحساب ولد .. الخ .
وبهذا فان المثل يؤدي دوراً مهماً في قهر المرأة علي الطريقة الشعبية لا يحض علي تعليمها ولا يحبذ فكرة عملها خارج المنزل . في حين ان التعليم عامل اساسي في تحديد وضع المرأة اذ يضمن لها العمل والذي يشكل في حقيقة الامر ضرورة اجتماعية واقتصادية هامة للمرأة حيث يقوي من ارادتها ويزيد من ثقتها بنفسها ويوسع دائرة اهتمامها لتخرج من دائرة ( الاهتمام الاصغر) (البيت) الي دائرة الاهتمام الأكبر ( المجتمع والوطن عامة ).
ومن خلال العمل تمتلك المرأة المعرفة الكاملة عن سير قوانين الطبيعة والمجتمع مما يجعلها ذات توازن نفسي وسايكلوجي وتصبح المراة واقعية ومنطقية مع نفسها ومع التطور الاجتماعي فتنداح مساهمتها الايجابية تجاه العمل والابداع .
والشاهد انه بعد الحرب العالمية الاولي ( 1914 – 1918 ) وجد تعليم البنات دفعة قويه من السلطات البريطانية ، اذ تم تلك الفترة تأسيس خمس مدارس اولية (ابتدائية ) للبنات التحقق بها 46 تلميذة في كل من مدن رفاعة والكاملين ومروي ودنقلا والابيض .كما افتتحت مدرسة لتدريب المعلمات في ام درمان في ابريل 1921 وفي نفس العام اسست مدرسة القابلات كذلك .
وعند فجر الاستقلال 1956 م كان عدد المدارس الابتدائية 563 منها 173 مدرسة للبنات ( حوالي 31% ) يدرس بها ما يقارب 27 الف تلميذة . وبازدياد عدد مدارس البنات وافتتاح كلية المعلمات عملت مجموعة متزايدة من النساء بالتدريس والتوليد والتمريض وبدأت مشاركة المرأة في العمل الماجور والنظامي خارج المنزل في الازدياد خاصة بعد ارتباطها لساحات التعليم العالي .
وكانت اول امرأة تلتحق بكلية غردون التكارية في العام 1945م هي الاستاذة انجيل اسحق وتخرجت في كلية الآداب في 1948 وفي العام التالي تبعها اربعة طالبات ( 2 اداب 2 علوم ) وتخرج في العام 1952 طبيبتان هما : (خالدة زاهر زروي سر كيان )
وتسارعت بعد ذلك مسيرة المرأة في التعليم العالي فقفز عددهن في عام 1990 ليبلغ حوالي 21 الف طالبة ثم ارتفع العدد الي 54 الف في عام 1995 م.
لقد خرجت المرأة بفضل التعليم وامتلاك المعرفة من قمقم اعزلة الى رحاب العمل العام ومن ثم انخرطت تدريجياً في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وآية ذلك أن الفترة ما بين 1948 – 1949)م شهدت نموا لم يسبق له مثيل في تاريخ حركة المرأة ابان تصاعد المد الوطني. فقد انتظمت المرأة آنذاك في نقابة عمال وعاملات وزارة الصحة ، إذا كانت مهمة التمريض والتوليد من أول المهن التي اشتغلت بها النساء في السودان وبهذا لم يكن مستبعدا ان تكون الممرضات أول قسم من النساء العاملات يتمكن من تنظيم مظاهرة من اجل حقوقهن مع زملائهم في النقابة . ليس هذا فحسب بل أنه في 1955م فازت احدى الممرضات في انتخابات اللجنة المركزية واصبحت عضوا فيها . وبفضل جهاد المرأة ايضا تكونت نقابة المعلمات في عام 1949م وكانت الاستاذة نفيسة المليك من قياداتها البارزة وفي عام 1952م تم تكوين الاتحاد النسائي وكانت صاحبة الفكرة الاستاذة عزيزة مكي ازرق ومن ثم صدرت جريدة صوت المرأة في عام 1955م لتكون الناطق الرسمي باسم الاتحاد وهكذا توالت انجازات المرأة من مجالات العمل الوطني العام فكانت الاستاذة احسان محمد فخري أول امرأة سودانية تقلد منصب القضاة في كل افريقيا وفي عام 1976م اصبحت قاضية محكمة استئناف وما أن جاء عام 1993م حتى كانت هناك أكثر من قاضية في الحكمة العليا منهن الاستاذتان رباب مصطفى ابو قصيصة وفريدة ابراهيم احمد.
والشاهد انه لم تعد فكرة النوع او الجندرة تحمل نفس الجاذبية بسبب المبالغة والمزايدة وفي بعض الأحيان تسطيح المفهوم نفسه . ونعتقد انه قد ان الاوان للحديث عن الدعوة لتقسيم يقوم علي اساس ملكات وقدرات ومهارات انسانية . ويعني ذلك ان ينقسم المجتمع الي انسان منتج او عاطل ، مبدع او غير مبدع . وان يكون مجال التمايز والاختلاف هو درجة الإنتاج والابداع .
وهذا سيحدث عاجلاً او اجلاً مع وتيرة التعليم والوعي المستمرة والمتصاعدة بين النساء .

في الكلام السوداني

مرآة التاريخ – رؤيا ورسالة
في الكلام السوداني


إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان علي الفؤاد دليلاً

مدخل:

الأهازيج أو الأراجيز أو المنولوج عبارة عن مقطوعات ملحنة بنغم.. بين الغناء والإنشاد، يدندن بها قائلها أو مرددها مع نفسه وأحياناً بصوت مسموع للآخرين.. وقد تكون بغرض تحقيق لعبة أو قد تكون لذاتها أو غيره ذلك في تصنيفات الأهزوجة المتعددة.وهي بذلك أدب تعبيري أو شفاهة "جزء في الفلكلور الشعبي العام". وهي ضمن المواد الشفهية التي لم تطرق بالتدوين أو التحليل أو النقد. وتبرز أهمية الأهازيج في تمثيلها للبيئة بالصوت والصورة فيكتسب بها الطفل ثقافة سريعة ومختلفة وتعطيه نتائج ايجابية وعالية في التعليم والتعلم. وتشمل الأهزوجة حتى الكبار في السن "رجال أم نساء"

فوائد الأهازيج:
1. التعليم:

تحقق الأهازيج وسيلة أساسية ومنهجية نفسية في تعليم وتلقين الطفل، وذلك لأنها تبدأ قبل السلم التعليمي وفي مرحلة البدء بالنطق والكلام.. بتهيئة الطفل للسماع أو الاستيعاب.. ليتبادل الأطفال الأدوار بعدها كآباء أو أمهات يمزجون أو يهزجن لأبنائهم.
2. المتعة والحيوية في أداء الأعمال:

تحقق الأهازيج إنتاجية عالية في أداء جميع الأعمال دون فتور أو ملل.. والشعور الدائم بالرضا.. ومن ذلك أهازيج ورود الماء "هوي جيب لي المي.. جيب لي المي" وفي الحصاد يرددون: "دق العيش موهبيش.. أكرب زندك يا أبوكريش" "دق العيش في القمرا شراه يجيك ناراً حمرا" ويدخل في ذلك ما يقوله النوتية أو ما تقوله النساء عند الطحين والعواسة.. الخ.

3. توفير وسيلة مرح:

وذلك لما تحويه الأهازيج من طرف وفرح يتيح لك التسلية والترويح مع النفس: " اللقمة وملاح الروب خلن عقلي زى الطوب" وغير أو مع الآخرين: "نحن ثلاثة أولاد أبو.. البير طويلة والدولو صغير ما يملا السقو"
4. عرض الأفكار:

لان الأهازيج وسيلة اتصال جماهيري، فهي سريعة ومقبولة تحقق فعاليتها سواء أكانت عابرة "كهتاف تظاهرة" مثلاً، أو عبارة تثبت لتأخذ بذلك حكم العادة: "نحن قبيل شن قلنا.. ما قلنا الطير بياكلنا" كان ذلك نقداً للنوبة في حربهم مع الكردفانيين لأن الحرب استمرت زمناً طويلاً وكان الضرر فادحاً. ومنها "شفنا الموت وبشرنا..وعدونا الشافنا ما تهنا" والتي يرددها العساكر في جلالتهم. وهي أهزوجة قديمة ترجع إلي عهد دولة الفونج.
5. توصيل وإقرار نموذج لنمط أو سلوك أنساني معين:

وغالباً ما يكون هذا السلوك مقبولاً. ولكن الأهزوجة تهيئة ليصبح واقعاً غير مرفوض سواء للفرد "جيت اتفرج فرجوني.. قطعوا رويسي وحيروني" أو المجموعة: "الما بجر الميس.. أمو تنقلب كديس" ليستجيب الأطفال لعمل خط اللعب.

تصنيفات الأهزوجة:

الأهزوجة التعليمية:

تبدأ مع الطفل الرضيع كمرحلة أولي ثم تتدرج المرحلة لتصل حتى سنين متأخرة في عمر الطفل. ففي مرحلة الروضة أو الخلوة تقرب للطفل المعلومة لتصله سهلة وميسرة يستعين بهما علي الحفظ وأداء الواجب أو التكيف الاجتماعي أو الرضا الذاتي، سواء كان ذلك عن طريق التلقين أو الترديد أو المنولوج أو التعاليم المستوحاة في الأهزوجة، مما يخلق للطفل فائدة في المحتوي "اللغوي والأخلاقي".. فتقرب للطفل ما يسمعه وتحببه فيه وتقرب إليه المقصود. ويمكن اختصار هذه المرحلة في الآتي:

أ‌. مرحلة الطفل الرضيع:

تقال الأهزوجة لتدليل الطفل الرضيع أو تعويده علي الأصوات لينطلق بها لسانه ومنها:

اللولي:

وهي دعوة الصغير للنوم أو التدليل، فنقول.. الأم: وهي تحتضنه وتحركه هادئة مع الإيقاع "النوم النوم.. النوم تعال سكت الجهال.. بكريك بريال تعال.. عندي ليك خبراً فال.. النوم النوم.. بكريك بالدوم.. دومتين حلوات دومتين مرات. النوم النوم.. ولدي الغالي.. البستر حالو وحالي.. ونحوه. ثم هنالك طرقعة الأصابع وهي تدليل الطفل طرقعة أصابعه من قبل الأم أو من ينوب عنها، بادئة بالمسح علي راحة اليد ثم الأصبع الصغير "الخنصر" وتقول: "دا صغير شاطر، ودا لباس الخاتم، ودا كبير عوير، ودا لحاس الدهنية، ودا قصاع القميلة.. وذلك بالترتيب إنتهاء بالإبهام، فتختلف تميزاً للطفل لتتدرج المرحلة. أما "أم أحمد" فهي لعبة صفتها أن يمدد الطفل رجليه وتقوم الأم بالترتيب عليها بدءاً بالرجل اليمني ويمتد كل مقطع تقفز للرجل الأخرى وتقول: "يا أم أحمد – دقي المحلب – في توب أحمد – أحمد غائب – في الركائب – جانا كلب – سنونو صفر – حلب الناقة – في الشنقاقة – واتعشابا – أولاد مسعود – التسعة قرود – بتريد أمك ولا أبوك؟!".وعند انطلاق لسان الطفل تكثف له اللغة ومادة الحوار مثل: يالطالع الشدرة "الشجرة" جيب لي معاك بقرة.. حلابة العشرة.. تحلب تعشيني.. بصحانه الصيني.. الصيني ينكسر.. وأنا مين يعشيني.. مشيت لي بيت الله.. لقيت حبيب الله.. قاعد له في بنبر.. قدامو الحمام أخضر.. يسقيه في سكر.. أرتني كان ضقتو.. حتى الرسول زرتو. وأيضاً: دوها يادوها! وهي أهزوجة تمثل لغزاً حوارياً وتسلسلاً منطقياً وطبيعياً بخلق للطفل ذكاءً وتفتحاً.. دوها يادوها.. بئر زمزم فجوها.. جو الحجاج شربوها.. سيد سافر ما جاء.. وجاب لي حتة كعكة.. والكعكة جوه المخزن.. والمخزن ماليه مفتاح.. والمفتاح عند النجار.. والنجار عاوز فلوس.. والفلوس عند السلطان.. والسلطان داير عروس.. والعروس دايره المنديل.. والمنديل عند الجهال.. والجهال عايزين لبن.. واللبن عند البقر.. والبقر داير حشيش.. والحشيش تحت الجبل.. والجبل داير مطر.. والمطر عند ربنا.. ربنا نحن صغار شن ذنبنا.. ياصغار وياكبار.. صلوا علي النبي المختار.. باب الجنة علي الإسلام.. وباب النار علي الكفار.. ونحن وراهم بالحجار. وقد تهدف الأهزوجة في هذه المرحلة للنوعية والتوجيه.. من ذلك حث الصبي علي النظافة وذلك بالسخرية: "طه الدلاها.. عيونو بي قضاها.. لي الصباح ما قشاها" أو نهيه عن الكذب "الكضاب ما بنريدو.. السكين تقطع أيدو".

ب‌. مرحلة الخلوة:

وعن هذه المرحلة يورد الأستاذ الطيب محمد الطيب في كتابه المسيد: أن الشيوخ يقربون العلم للحوار بالأهازيج "النغمة والسجعة".. إذ أنها أسلوب محبب للأطفال وتعليمي ويقوم اللسان. من ذلك الحيران علي سبيل المزاج: "السبت سبوت.. والأحد نبوت.. والاثنين بابين.. والثلاثاء عمارة.. والأربعاء كرامة.. والخميس صفقة ورقيص للحيران المطاميس. وقد يضيفون: وجانا السبت ود الحرام قمحنا.. الفكي شال السوط وسلخنا" … الخ.

الأهزوجة اللعبيه:

تدخل هذه الأهازيج في الألعاب كمادة أساسية.. "فقد تكون أساس اللعبة أهزوجة" أو تكون ثانوية مكملة للعبة. وفي لعبة مثلاً يهزج الصبية مع اللعبة بقوطم: "الطير الخداري.. أب ريشاً براري.. جهينة حاربونا.. شدوا زملهم جونا.. زملهم بالكسارة" أو يقولون أيام الخريف: "الله خلق للنعجة ضنب.. الكوم بقرش.. والعفشة بلاش.." ويمازحون من يلعب مع البنات من الأولاد بقولهم: "لعاب البنوت.. العجيل المربوط.. يرعي في الحنتوت" أو العكس لمن تعلب من البنات مع الأولاد يقولون لها: "محمد ولد.. لباسو انشرط.. في شارع الظلط"

أهازيج الحصاد والرعي:

تقال هذه الأهازيج لتخفيف العبء وللتسلية وتمضية الوقت ومنها أهزوجة "دق العيش" المذكورة آنفاً. وقد تأخذ الأهزوجة هنا شكل المسدار نحو: "البارح القريبة وقعت علي نصيبه.. عتيد الحب اتدرع أم حبيبة" أو زراعة ناس أبوك للأرض.. فرقتا وست أم فرقداً مسامير جزمه.. كل ما اطراكي تتلكلك علي الخدمة. والرعاة يرددون عند جز صوف الغنم: "جزيناك بي مقص.. مراحك زاد ما نقص.. جزيناك بي سكين.. تلدي ستة وستين.. العنقات بناتك.. والبركة في أماتك".

الأهزوجة على لسان الحيوان:

يعتقد الأطفال أن الحيوانات قديماً كانت تتكلم فيحاورونها ويخاطبونها بأهازيج يقولون أن هذه لغتها أو ينسبونها إليها فمثلاً يقولون: "السمبرية أم قدوم..عيش أبوك متين يقوم؟ يقوم باكر مع العساكر".. أو يقولون: "أم قيردون يالحاجة.. ولدك عريس يالحاجة.. كل سنة داجة.

الأهزوجة الطقسية:

وهي عبارة عن دعاء وتعاويذ تقال في أوقات أو عند طقوس معينة.. ومنه قولهم: "ياحافظ ياحفيظ.. ياحافظ الموية في البير.. وياحافظ السيف في الجفير.. وياحافظ المخ في القصير.. وياحافظ اللبن في ضرع أمو.. وياحافظ الجني في بطن المرة.. وياحافظ العش في الشدر "الشجر".. والموية فوق ضهر الحجر.. وياحافظ البيضة في سهوب الخلا.. تحفظنا من كل بلا.. وعند التهنئة بالعيد يقولون: "يالهلال هلال مبارك.. ساعد بنياتنا.. ونجح وليداتنا.. وجبر كريعاتنا.. وفتح عويناتنا.. شهراً أبرك وأخير علي الفات".

الأهازيج المرتبطة بالأكل والشرب:

بحيث تكون صفة لها أو تعليقاً عليها ونحوه وفيها: البليلة أم ملحاً ظريف.. حبة لوبة.. وحبة عيش ريف.. الفتة أم توم الحمتنا النوم.. الفتة أم شطة.. الحمتنا النطة" أو "الرز مردوم عند ناس كلتوم" وعن الشاي يقولون: "البا نجقلي شرابه مر.. حلاة الشاي بالتمر"… الخ.

الأربعاء، 9 ديسمبر 2009

أم المدائن: وداعاً ولدي .. يوسف محمد عبد الغني

أم المدائن:
وداعاً ولدي .. رب السيف والقلم إلى الجنان الأخ الإنسان .. الإنسان .. اللواء .م. يوسف محمد عبد الغني

وأفقد من فقدنا من وجدنا .. قبيل الفقد مفقود المثال
(المتنبي)

ودعت عطبرة ليلة الجمعة 13 من نوفمبر في جمهرة مسربلة بالحزن مفعمة بالأسى احد ابرز أبنائها ورموزها .. اللواء ركن .م. يوسف محمد عبد الغني الذي وافته المنية اثر علة لم تمهله طويلاً فذهب مبكياًً على مناقيه الجمة وشمائله الحلوة .. وصفاته النادرة.
ولد الراحل المقيم بمدينة عطبرة في مارس 1944م بحي أم بكول لاب كان يعمل بورش السكة الحديد، إثر تخرجه في مدرسة جبيت الصناعية وقد كنا أنداداً إذ سبقته إلى الوجود . بنفس الحي بشهر واحد وهكذا تقاسمنا ذكريات الطفولة وتزاملنا كذلك في المدرسة الغربية الابتدائية، انتقل بعدها الفقيد المدرسة الأميرية الوسطى، ثم رحل إلى أم درمان ليكمل دراسته الثانوية بمدارس الأحفاد. التحق بعدها بالكلية الحربية عام 1964م ضمن الدفعة (17) وكان من أشهر زملائه. فيها: اللواء الهادي بشرى، واللواء أحمد البشير، واللواء عبد الله عثمان، واثر تخرجه في عام 1966م عمل بالقيادة الشمالية بشندي، ومنها انتقل للعمل بجنوب السودان. وفي العام التالي واثر اندلاع حرب حزيران أرسل للعمل بالجبهة المصرية، عاد بعدها للعمل بسلاح المدفعية عطبرة، ومنها إلى الفاشر. وفي عام 1988م ساهم الفقيد في تحرير مدينة الكرمك الحدودية.
تتكون أسرة الفقيد من ثمانية أبناء: أربعة أولاد، وأربع بنات، عمر وهالة وهما من زوجته الأولى المرحومة الأستاذة: آمال على حسن التي كانت تعمل موظفة بالسكة الحديد. وعمر هو الآن موظف ببنك الخرطوم بالعاصمة وهالة تعمل بقناة النيل الأزرق. وبقية الأبناء من زوجته اشراقة أحمد شمس الدين وهم : خالد ، محمد، أحمد، آن، وروان . وكلهم بمراحل التعليم المختلفة.
أتيحت للفقيد الكثير من فرص التدريب المهني والإداري خارج البلاد في الهند وباكستان ولندن. وفي هذه الأخيرة حصل على ماجستير في الدراسات الإستراتيجية من كلية King College قسم دراسات الحرب Was studies تقاعد عن الخدمة في عام 1989م حيث تفرغ للقراءة والاطلاع، هوايته المفضلة التي عشقها منذ نعومة أظافره. خاصة في مجال التاريخ الذي أحبه على نحو مدهش، عمل وزيراً للصحة بولاية نهر النيل (2005 ـ 2007)م.
وكما كان الفقيد عسكرياً منضبطاً من الطراز الأول، أبلى بلاءاً حسناً في أداء رسالته المهنية والوطنية داخل وخارج البلاد، كان كذلك مؤرخاً هاوياً من الدرجة الأولى، اهتم بشكل أساسي بالترجمة لبعض الكتب التاريخية الهامة، خاصة تلك التي تتناول تاريخ وطنه وأمته. وقد أنجز كل ذلك بجدارة واقتدار بما أفاء الله عليه من علم وما أسبغه عليه من نعمة المعرفة وحب الآخرين وآية ذلك كما كان يردد دوماً. إن القارئ السوداني عامة والطلاب خاصة، لا يجيدون الانجليزية ولا يطيقون القراءة بها.
هذا ومن بواكير تلك الترجمات كتابان بالانجليزية، عثر عليهما الفقيد بإحدى مكتبات باكستان للواء أ0أ0 أكرم 0 الأول: عن خالد ابن الوليد، والآخر بعنوان: فتح فارس. وبعد الترجمة قام اللواء يوسف بطباعتهما بسوريا وجرى توزيعهما داخل السودان، خاصة بالجامعات والقوات المسلحة.
وعلى صعيد التاريخ الأوربي، قام الفقيد بترجمة كتاب هام بعنوان: بناة أوربا الحديثة الحديثة، Makes ot Madsen Europe لبروفيسور هولت P.M. Helt، والذي عمل شطراً من حياته الجامعية بالخرطوم، رفد خلالها المكتبة التاريخية السودانية بالعديد من الكتب عن تاريخ السودان، منها على سبيل المثال: دولة المهدية في السودان The Mahdist stats in the Sudan ، وتاريخ السودان الحديث A history at Madsen Sudan ، هذا بجانب إسهاماته الدءوبة المكثفة في دوربة السودان في رسائل ومدونات Sudan Notes and records والتي انتظمت في الصدور منذ عام 1918م وظلت كذلك حتى مشارف الاستقلال عام 1956م.
والكتاب موضوع الترجمة والذي نحن بصدده: بناة أوربا الحديثة: يتناول عصراً من أهم عصور التاريخ الأوربي، اعني عصر النهضة (1300 ـ 1600)م The Renaissance ، وآية ذلك انه العصر الذي إنعتقت فيه أوربا من ظلمات العصور الوسطى وراحت تخيل نفسها من أوضارها، وتحرر عقلها من خزعبلاتها وترهاتها، وانطلقت من ثم تبحث عن آفاق أوسع وأرحب بفضل جهود علمائها وأدبائها وفنانيها من أمثال: كوبرنيكس، جاليلو، ليوناردو دافنشي، كيكافلي... وغيرهم.
وعلى صعيد تاريخ السودان فقد قام الفقيد بترجمة كتابين هامين للغاية. الأول بعنوان: مصر في السودان Egypt in the Sudan لريتشارد هل Ritchard Hill وتغطي مادته فترة الحكم التركي ـ المصري في السودان (1821 ـ 1885)م، والذي رغم سلبياته الكثيرة إلا انه حقق انجازين هامين بالبلاد، فبجانب الحكم المركزي الذي انتظامها لأول مرة، فقد تم ضم الجنوب الذي ظل لأكثر من ثلاثة قرون بعيداً عن التأثيرات العربية والإسلامية السائدة في الشمال. كما تعزى أهمية الكتاب كذلك إلى شخصية مؤلفه ريتشارد هل الذي عمل في بداية خدمته بالبلاد بسكك حديد السودان حيث كان مأموراً للإدارة بمدينة عطبرة خلال الأربعينات من القرن الماضي. وقد كتب سفراً قيماً عن النقل في السودان Sudan Transport خاصة النقل الحديدي، ولولع هل ونبوغه في مجال الدراسات التاريخية انتقل ليعمل محاضراً بالكلية الجامعية بالخرطوم. وظل يساهم بانتظام في تحرير دوربة السودان في رسائل ومدونات.
أما الكتاب الثاني فهو بعنوان: تاريخ جنوب السودان (1839 ـ 1889)م A history at the southern Sudan لريتشارد قراي Richard Grey ويزخر الكتاب بمعلومات نادرة وقيمة عن ما كان يجري بالجنوب خلال الحكم التركي ـ المصري.
حقاً لقد كان الفقيد رباً للسيف والقلم وملاذاً للبسطاء والفقراء والمعسرين. ومصدراً لطلاب العلم والمعرفة. وعطفاً على ذلك لم يكن مستغرباً أن تغص ساحة العزاء أمام منزله بالمعزيين من أهل عطبرة الأوفياء الذين جاءوا من كل أطراف المدينة وضواحيها لأداء واجب العزاء.. وفاءاً وعرفاناً. كما توافد زملاؤه من رفقاء السلاح من الخرطوم تباعاً وفي طليعتهم رفيق دربه اللواء الهادي بشرى. هذا بجانب زملائه بسلاح المدفعية، على رأسهم قائد السلاح: اللواء أبو بكر محمد عثمان. أما ابن عطبرة البار الأخ الهادي محمد علي. المعتمد السابق فقد حضر من الخرطوم لا ليعزي فحسب، بل ليتلقى بدوره العزاء في صديقه الفقيد والذي كرمه من قبل في أمسية مشهودة بحدائق تلفزيون عطبرة 2007م وذلك حين منحه عربة جياد. (كرت).
كان المرحوم جم التواضع وافر العقل، عفيف اليد واللسان، قليل الكلام، يحب الناس ويؤثرهم على نفسه. كل ذلك لعلمه بتناهية في الزمان والمكان، وان الحياة، كما في بكائية الشاعر صلاح أحمد إبراهيم (نحن والردى ضل ضحى لا أكثر) :
آخر العز
طويل أم قصير
كفن من طرف السوق
وشبر في المقابر
كان الفقيد حتى بعد أن أصبح وزيراً، يرتاد مقهى الأخ (عادل ود البيه) الأكاديمية كما يحلو لي أن اسميها، حيث مكان انه وترويحه مع أصفيائه وأصدقائه البسطاء الطيبين من أهل بابل كما يسميهم لكثرة جدلهم ومبارزتهم الفكرية، زرقاني، يحي، الملة، ناصر، خالد، والمايسترو ود البيه.
فقدنا فيك أخي يوسف، الطهر والنبل، والإخاء الجميل، فقدنا فيك الإنسان .. الإنسان .. جعل الله مثواك الجنة مع الشهداء والصديقين .. وسنظل أبداً .. مستبشرين ومبشرين بكم أيها الفقيد العزيز..

رؤى الساعة 25 أبو ماضي
لا تقلقي يوم النوى أو فأقلقي
يا نفس كل تجمع لتفرق
الله قدر أن تمس يد الأسى
أرواحنا كيما ترف وترتقي

هوامش إبستمولوجية

هوامش إبستمولوجية

ود تكتوك: الحياة وراء الموت
فرنسيس بيكون: أربعة أوهام وراء أخطاء البشر
وما انتفع المرء بمثل عقله *** وخير ذخر المرء حسن فعله
(أبو العتاهية):

فاتحة:
الابستمولوجية Epistemology أو مبحث المعرفة هو احد مباحث الفلسفة الرئيسية الثلاثة بجانب مبحثي الوجود Ontology والقيم Axiology وهو بلا جدال بمثابة حجر الزاوية بالنسبة لكليهما. وآية ذلك انه لا يمكن بحث الوجود وإدراكه إلا من خلاله إذ يمكن من الوقوف على خصائص الوجود العام تمهيداً لوضع نظرية في طبيعة العالم، وفيما إذا كان الوجود مادياً صرفاً أو روحياً خالصاً أو مزيجاً منهما؟ وفيما إذا كانت الأحداث الكونية تقوم على أساس ثابت أو تقع مصادفة واتفاقاً؟ وفي صفات الله وعلاقته بمخلوقاته وبالمثل فان مبحث القيم (الحق، الخير، والجمال)، يعتمد كذلك على الابستمولوجيا حيث يبحث في طبيعة هذه القيم. وهل هي مجرد معاني في العقل تقوم بها الأشياء؟ أم أن لها وجوداً مستقلاً عن العقل الذي يدركها؟.
والشاهد أن مبحث المعرفة هو مبحث محوري في الفلسفة إذ يراد به البحث في إمكان العلم بالوجود أو العجز عن معرفته؟ هل في وسع الإنسان أن يدرك الحقائق وأن يطمئن إلى صدق إدراكه وصحة معلوماته؟ أم أن قدرته على معرفة الأشياء مثار للشك؟ وإذا كانت المعرفة البشرية ممكنة وليست موضعاً للشك فما حدود هذه المعرفة؟ أهي احتمالية ترجيحية أم أنها تتجاوز الاحتمال إلى درجة اليقين؟ ثم ما منابع هذه المعرفة وما أدواتها؟ أهي العقل أم الحس أم الحدس؟ وإذا كان الإنسان يعرف فكيف يعرف أن ما عرفه هو الحقيقة؟ ما هو معيار الصدق ومحكه؟ ...الخ.
في البحث عن المعرفة:
لا جدال في أن المعرفة ظلت على مدار التاريخ هي سلاح الإنسان في صراعه المستمر ضد قوى الطبيعة بغرض قهرها وتسخيرها لمصلحته من جهة، وللحد من وطأة الجهل والفقر والمرض من جهة أخرى. وآية ذلك أن المعرفة في حد ذاتها ليست قوة وإنما القوة في استخدامها وتوظيفها، فالحقيقي، كما يزعم أصحاب المذهب البرجماني pragmatism ما يعمل Truth is what works والشاهد أن المعرفة ان لم تكن مقرونة بالعمل ليست سوى زهو وغرور علمي شاحب وتكلف ممقوت ومحبة في الظهور والادعاء. والقرآن الكريم في كثير من آياته يسخر ممن يأمر بما لا يفعل، ويعلم ولا يعمل: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم، لم تقولون ما لا تفعلون ، كمثل الحمار يحمل أسفارا) ...الخ.
والحقيقة أن التاريخ يفيدنا بأن المعرفة بدأت بسؤال أو فلنقل بدهشة. فطاليس Thales الفيلسوف الإغريقي في القرن السادس قبل الميلاد اعتبر أول الفلاسفة لأنه تساءل: ما هو هذا الكون الغامض في بدايته وفي نهايته؟ وجاء الفلاسفة بعده ليجيبوا عن سؤاله ، فكانت عشرات النظريات، انتظمت في عشرات الكتب في تفسير هذا اللغز ووضع نظرية في طبيعة هذا العالم. والشاهد انه عن طريق هذا الباب اعني باب السؤال، طرق الإنسان كثيراً من الدروب سعياً وراء العلم والمعرفة. والسؤال على صعيد العلوم الإنسانية قد يتمخض عنه أحيانا العديد من الإجابات المختلفة والتي يمكن حصرها في نوعين أساسيين: إجابة مباشرة ظريفة ونسبية. وهذا النوع من الإجابات يختلف باختلاف البشر وميولهم ومشاربهم الثقافية ومنازعهم الفكرية، وكذلك باختلاف الزمكان، والإجابة الأخرى. إجابة غير مباشرة تتسم بالعمق والحكمة وتبقى على مر الزمن حقيقة ثابتة لا تتبدل. واليك بعض النماذج:
طرح الفيلسوف برتراندرسل (1872 ـ 1970)م في إحدى مقالاته الفلسفية سؤالاً بسيطاً وربما يبدو ساذجاً لأول وهلة : (لماذا يبكي الطفل عندما يجرح نفسه ويصرخ وكأن الدنيا كلها أحزان؟ والإجابة المألوفة عن هذا السؤال : (لأنه يحس إحساسا طاغياً بالألم) . فهل هذه الإجابة شافية حاسمة؟ وإذا كانت كذلك فلماذا لا يبكي الرجل الكبير في مثل هذا الظرف؟ والشاهد أن هنالك سبباً آخر أعمق وراء صراخ الطفل وسكوت الكبير وصبره. إن الطفل الصغير الذي يجرح نفسه لأن عقله الصغير ينحصر في الحاضر، والحاضر نقطة تحول مفترضية بين زمنين، لا وجود لها إلا في عقولنا. وآية ذلك انك إذا قلت الساعة الآن هي الخامسة بالضبط ، تكون قد ارتكبت كذبة بيضاء بحسن نية، وإذ أن عقارب الساعة في تلك اللحظة تكون قد تجاوزت هذه المحطة الزمنية إلى محطة أخرى على ميناء الساعة.
أن عجز الطفل عن إدراك أن هذا الألم الذي يعاني منه إنما هو لحظة عابرة، وبرهة وجيزة، هو الذي يجعله يصرخ وكأن الحكاية كلها هذه اللحظة المؤلمة العابرة. انه بالأحرى عاجز عن إدراك فكرة الزمن وامتداده السرمدي ولقد نصح الفيلسوف الهولندي: باروخ سبينوزا (1632 ـ 1677)م أعظم الفلاسفة في العصر الحديث والذي كان من أحكم الناس حيث عاش حياته متوافقة مع حكمته، نصح الناس أن ينظروا إلى الحوادث الجارية من زاوية الخلود. وأولئك الذين يستطيعون أن يتعلموا ذلك، سوف يجدون الحاضر الأليم أكثر احتمالاً لو تغيرت زاوية النظر، إنهم يرونه برهة عابرة، ومشكلة تحل، وقناة تعبر. إن الرجل الذي تعلم الحكمة من سبينوزا يستطيع النظر إلى حياته حتى ولو كانت كلها آلاما باعتبارها لحظة عابرة في حياة الإنسانية والجنس البشري نفسه من بدايته الغامضة حتى نهايته المجهولة، ليس إلا حادثاً ضئيلاً في حياة الكون.
والشاهد انه بازدياد الحكمة تكتسب أفكارنا مجالاً أفسح في الزمكان أن الطفل يعيش في لحظته، والصبي في يومه، والرجل الكبير في عامه، والمؤرخ في حقبته. ولا يريدنا سبينوزا أن نعيش في اللحظة أو اليوم أو العام أو الحقبة وإنما في الأبدية. وأولئك الذين يتدربون على ذلك سوف يجدون انه سيزيل صفة الهلع والطمع ويحول دون الجنون الذي يجيء مع الممات. ولقد قضى سبينوزا آخر أيام حياته يروي لضيوفه أبهج القصص وأطرفها.
وهل أدلك على أوضح من ذلك؟ سئل الشيخ فرح ود تكتوك الحكيم السناري: كيف حال أخيك المريض؟ فرد، لقد توفي. وما سبب وفاته؟ أجاب الشيخ: حياته. لقد كان السائل ينتظر أن يقول له الشيخ: انه مات بسبب المرض. والحكمة في رد الشيخ تتمثل في انه يقرر حقيقة أبدية وليست نسبية أو ظرفية ما دامت الحياة هي المقدمة الكبرى للفناء، فكأنما نحن نحيا لنموت. وآية ذلك إننا جميعاً نحمل بذور فنائنا في أحشائنا.
وسئل الصحابي الجليل عبد الله بن عباس: من اعلم الناس؟ فقال كل الناس، ألا تذكرنا هذه الإجابة بقصة: فيل عميان (هندستان)؟ لقد كانوا ستة من العميان تاقوا لمعرفة الكون، فتخيروا لذلك فيلاً ضخماً ليتحسسوه، كل على حدة تباعاً من زيله وساقه وبطنه وأذنه ونابه وخرطومه فكان الفيل، بعد أن فعلوا ذلك حبلاً وشجر وحائطاً ومروحة وحربة وخرطوشاً على التوالي. فمن كان منهم اعلم بحقيقة الفيل؟ لا أحد، لكنهم مجتمعين أدركوا حقيقته.
والشاهد انه بالسؤال والدهشة ، يزداد رصيدنا من النشاط العقلي وتمتلئ أفئدتنا شيئاً فشيئاً بالحكمة. الم يصدق الفلاسفة حينما عرفوا لإنسان بأنه حيوان ذو دهشة أو حيوان مندهش؟ أو ليس من أدهش المدهشات إلا يندهش الإنسان؟ أو ليست الحياة نفسها هي سؤال يقود إلى سؤال، ودهشة تقضي إلى دهشة، وحيرة تعقبها أخرى؟ أو ليست هي أشبه بقصة ألف ليلة وليلة لها بداية وليست لها نهاية؟!.
أربعة أوهام وراء أخطاء البشر:
كثيراً ما يطرأ هذا السؤال: لماذا نخطئ ولماذا يخطئ الآخرون؟ ويطرح نفسه عبئاً جديداً على عقولنا وأفئدتنا ومن الفلاسفة الذين تصدوا للإجابة عن هذا السؤال وحسم هذه الحيرة الإنسانية في الماضي، الفيلسوف الإغريقي: أفلاطون (430 ـ 347) ق.م الذي رد هذه الأخطاء إلى خداع الحواس والتي تعتبر بجانب العقل والحدس والمداخل الحقيقية للمعرفة. ومن أين الثقة بالحواس؟ وقواها حاسة البصر وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً ساكناً وما هو كذلك. وترى الأشياء البعيدة صغيرة ضئيلة الحجم وهي ابعد ما تكون عن ذلك وترى السراب رياً وماءاً. وتصور لنا العين المجردة الأرض منبسطة مسطحة وهي ابعد ما تكون عن الانبساط والتسطيح.. الخ.
أما في الفلسفة الحديثة فقد كان الفيلسوف البريطاني. فرنسيس بيكون (1561 ـ 1626)م من الذين اهتموا بالإجابة عن هذا السؤال وآية ذلك انه يعتقد أن مشكلة المنطق الأولى من تتبع مصادر هذه الأخطاء ورصدها ومن ثم يقدم الفيلسوف البريطاني تحليله المشهور لهذه لأخطاء وقوامه أربعة أوهام يعتقد أنها مسئولة عنها وتقف وراءها.
أوهام القبيلة:
وهي مجموعة الأوهام والمعتقدات التي ينشأ وسطها الفرد، فهي محدودة بطبيعتها بسبب محليتها وظروف نشأتها. وهي أوهام طبيعية بالنسبة للبشر عموماً. والشاهد أن من أخطاء العقل انه إذا آمن برأي عن طريق التسليم أو من اجل لذة أو منفعة تعود عليه، نجده يسعى بكل الوسائل لتأييده وإثباته على الرغم من وجود الأدلة الكثيرة القاطعة المغايرة لرأيه، ومن أمثلة محاولة الناس إرغام غيرهم على آرائهم وإجبارهم على التفكير مثلهم القصة التي يسوقها لنا (بيكون) وملخصها أن رجلاً دخل إلى معبد وعرضت أمامه لوحات كثيرة علقها الذين نجوا من خطر الغرق في البحر بعد أن تحطمت بهم السفينة استجابة لنزورهم التي تقربوا بها إلى الإله. وطلب منه أن يعترف بعد هذا الذي شاهده بقوة الإله وجدوى النذور. فأجاب لكن أين لوحات الذين غرقوا وماتوا في البحر على الرغم من نذورهم وإيمانهم وتضرعهم؟! والشاهد أن كل الخرافات والأساطير متشابهة سواء كانت ناجمة عن الأحلام أو التنجيم أو الطيرة أو العقاب وما شابهها.
أوهام الكهف:
وهي الأخطاء التي يختص بها الفرد، لان لكل إنسان كهفاً خاصاً به يعمل على حرف أضواء الطبيعة وتغيير لونها. وهذا الكهف هو: طبعه كما كونته الطبيعة، ومزاجه أو حاله حسمه وعقله وآية ذلك أن بعض العقول مثلاً تنزع إلى التحليل وترى أوجه الخلاف والتباين في الأشياء أينما وجدت. وبعض العقول بطبيعتها تركيبة تميل إلى البناء والتركيب وترى أوجه الشبه بين الأشياء وينتمي إلى الفئة الأولى: العلماء والرسامون، بينما إلى الفئة الثانية: الشعراء والفلاسفة. وبعض العقول تميل كثيراً إلى تقدير كل ما هو قديم، وبعضها تختص بحماس كل أمر جديد، والقليل منها يستطيع الاحتفاظ بالحد الوسط، فلا تقضي على ما أوجده الاقدمون من أمور صحيحة، ولا تنظر بعين الاحتقار إلى الاختراعات الجديدة النافعة، لان الحقيقة لا تعرف تحيزاً أو تحزباً.
أوهام السوق:
وهي من الأوهام التي تروج بين الناس كنتيجة للتعامل فيما بينهم ولا سيما في الأسواق والمحال العامة. فهي تنشأ إذن من اجتماع الناس بعضهم ببعض وهم يتاجرون ويتبادلون المنافع والناس يخاطبون بعضهم بعضاً عن طريق اللغة إلى فرضت كلماتها عليهم وفقاً لعقلية أهل السوق والعامة من الناس، حيث يترتب على سوء تكوين هذه الكلمات وعدم مواقفها تعطيل شديد للعقل.
أوهام المسرح:
وهي الأوهام التي انتقلت إلينا من نظريات الفلاسفة المختلفة وتتكون نتيجة للتراكمات الفلسفية والثقافية التي يرثها الفرد من الفلاسفة والكتاب والتي لا تكون في مجملها صحيحة. فعلى سبيل المثال فان العالم كما يصفه أفلاطون ليس سوى عالم بناه أفلاطون ويصور أفلاطون أكثر من تصويره للعالم.
ويختم (بيكون) بالقول: إننا سوف لا نتقدم نحو الحقيقة مادامت هذه الأوهام لا تزال عالقة بأذهاننا مستقرة في نفوسنا، لأن الإنسان عندما يبدأ باليقينيات فإنه سينتهي بالشك ولكنه عندما يبدأ راضياً بالشك فإنه سينتهي حتماً باليقينيات.
رؤى الساعة 25 (الشابي)
عش للشعور وبالشعور فإنما دنياك كون عواطف وشعور
صيغت من العطف العميق وإنها لتجف لو صيغت من التفكير
استراحة العدد:
تزوجت اثنين لفرط جهلي وقد حاز البلا زوج اثنتين
فقلت: أعيش بينهما خروفاً انعّم بين أكرم نعجتين
رضا هذه يثير سخط تلك فما أنجو من احدى السخطتين

في ذكرى رحيل صاحب لغز الموت

في ذكرى رحيل صاحب لغز الموت
الزمن عند طبيب الفلاسفة وفيلسوف الاطباء. د. مصطفى محمود


كل شيء في الدنيا يجري ويلهث
الشمس تشرق وتغرب
والنجوم تدور في افلاكها
والارض تدور حول نفسها
وظاهرات الطبيعة كلها عبارة عن حركة
الكهرباء حركة، والصوت حركة، والضوء حركة.. الخ وهذه الحركة تفترض الزمن الذي تلبسه، او ما يسميه اينشتاين (Albert Einstein 1879 ـ 1955)م : (الزمكان)، اي الزمان الملتصق بالمكان.
لكن ما الزمن؟
هل هو دقات ساعة الجامعة. والنتيجة المعلقة بالحائط. والتقويم الفلكي بالفصول والايام؟
اننا مازلنا نذكر كلمات المراقب ونحن نؤدي الامتحان في اخر كل سنة: "باقي من الزمن نصف ساعة" نذكر الرجفة التي كنا نحسب بها ونحن ننظر الى ورقة الاجابة والى ورقة الاسئلة والى الساعة في يد المراقب والى شفتيه وهما تنطقان (باقي من الزمن نصف ساعة) كانه ينطق حكما بالاعدام. او حكما بالافراج.
كان النصف ساعة عند بعضنا قصيرا جدا. اقصر من نصف دقيقة لان ورقة الاجابة مازالت بيضاء امامه لانه مازال يبحث وكان عند بعضنا الاخر طويلا مملا اطول من نصف يوم لانه قد انتهى من الاجابة.
كانت الساعة في يد المراقب تشير الى زمن واحد ولكن كلٌ منا كان له زمن خاص به. كان معيار الدقائق عند كل منا يختلف عن الاخر وهذا هو مفتاح اللغز.
ان عواطفنا واهتماماتنا هي الساعة الحقيقية التي تضبط الزمن وتطيله او تقصره افراحنا تجعل ساعتنا لحظات والامنا تجعل لحظاتنا طويلة مريرة ثقيلة مثل السنين واطول.
احساسنا بالسرعة والبطء ليس مصدره ساعة الحائط ولكن مصدره الحقيقي الشعور في داخلنا. كما نجد في مثل هذا الشاهد من الغناء السوداني:
الغريبة الساعة جنبك تبدو اقصر من دقيقة
والدقيقة وانت مافي مرة ما بنقدر نطيقة
ومن واقع الحياة نسوق مثلا من الملاعب الخضراء. ففي كرة القدم فان نصف الساعة المتبقي من عمر المباراة بالنسبة للفريق المهزوم اقل من نصف دقيقة. بينما هو اطول من نصف يوم بالنسبة لغريمه المنتصر.
والزمن الخارجي : زمن الساعات والمنبهات. زمن كاذب خداع لانه يساوي بين اللحظات ويجعلها مجرد ارقام على (مينا الساعة) الساعة واحدة، الساعة اثنين، مجرد حركة من العقرب، اما الزمن الحقيقي فهو في داخلنا.
ولكننا لا نعيش حياتنا كلها في الزمن الحقيقي، لاننا نعيش في نفوسنا كل الوقت وانما نعيش في مجتمع، نخرج ونختلط بالناس ونتبادل المنفعة، ونتعامل ونتكلم، وناخذ ونعطي، ولهذا لا نجد مفرا من الخضوع للزمن الاخر، زمن الساعات، فنتقيد بالمواعيد، ونرتبط بالامكنة.
والعرف والتقاليد، والافكار الجاهزة، تطمس الاشياء المبتكرة فينا، وتطمس الذات العميقة فينا التي تحتوي على سرنا وحقيقتنا. ونمضي في زحام الناس وقد لبسنا لهم نفسا مستعارة من التقاليد والعادات لنعجبهم وننال رضاهم. وتتكون عندنا بمضي الزمن ذات اجتماعية تعيش بافكار جاهزة. وعادات وراثية ورغبات عامة لا شخصية وهذه الذات سطحية. ثرثارة تقضي وقتها في التعازي والتهاني والمجاملات والمعابدات، والسخافات، وتنفق حياتها في علاقات سطحية تشبه المواصلات المادية التي توصل من الباب الى الباب. ولا توصل من القلب الى القلب.
ونحن نكتشف ذواتنا الاصيلة لاول مرة. في مغامرة الحب حينما تعثر على المراة التي تهز وجودنا وتخترقنا. ونكتشفها لثاني مرة في مغامرة الفن في لحظة الالهام التي ينفتح فيها شعورنا على ادراك جديد وتصوير جديد للدنيا. فنكتب او نغنى او نرسم. او نقول شعرا. ونكتشفها لثالث مرة في مغامرة التامل وفي الشعور العميق بالتدين.
كل هذه الاكتشافات تخرجنا من الزمن المبتذل المتكرر زمن الساعات. وتنزل بنا الى اعماقنا. الى زمن الحقيقي. حيث كل شيء جديد مبتكر. مدهش. جميل.
ان دقات ساعة الحائط تقدم لك زمنا مريضا ابحث عن زمنك الحقيقي في دقات قلبك. ونبض احساسك.
\\\\\\
رؤى الساعة 25
اليا ابو ماضي
سبيل العز ان تبني وتعلى فلا تقنع بان سواك يبني
ولاتك عالة في عنق جد رميم العظم او عبئا على ابن
فمن يغرس لكي يجني سواه يعش، ويموت من يحيا ليجني

ألائمتي اتركيني في سكوني ولومي من يضج بغير طحن
اذا صار السماع بلا قياس فلا عجب اذا سكت المغني
انا ولئن سكت وقال غيري وجعجع صاحب الصوت الارن
اذا انا لم اجد حقلا مريعا خلقت الحقل في روحي وذهني
فكادت تملأ الاثمار كفي ويعبق بالشذى الفواح ردني

معلومة العدد:
التضخم Inflation نقيض الكساد Depression والاثنان يرتدان الى مفهوم الندرة Scarcity فالتضخم يعني ندرة السلع بالقياس الى السيولة المتداولة. وهو ببساطة ارتفاع كبير في الاسعار ناشئ عن ظاهرة التضخم المالي. بينما الكساد يعني ندرة السيولة المتداولة وكثرة السلع.

استراحة العدد: (الرصافي):
يقولون: عمن اخذت الغريض وممن تعلمت نظم الدرر
واين درست العروض وكيف تلقفت هذا البيان الاغر
فقلت: اخذت الغريض صبيا عن الطير وهي تغني السحر
وعن خطرات عليل النسيم يمر فيشفى عليل البشر
وعن ضحكات مياه الجداول فوق الجلامد تحت الشجر
وذا الكون جامعة الجامعات وذا الدهر استاذها المعتبر

على هامش منتدى العطبراوي الثقافي: برافو : الاتحاد الوطني

على هامش منتدى العطبراوي الثقافي: برافو : الاتحاد الوطني

الأستاذ حسن أحمد الشيخ: لو لم يكن للعطبراوي سوى(أنا سوداني)لكان قميناً بالأمارة


في باحة متبرحة وأمسية حالمة بالخميس 29 أكتوبر الماضي، شهدت حديقة الرشيد مهدي أولى فعاليات منتدى العطبراوي الثقافي والتي نظمتها أمانة المناشط بالاتحاد الوطني للشباب. وقد أمها جمهور ضخم وفخم يتقدمه السيد وزير الشباب والرياضة ومدير وزارة الثقافة، وعدد مقدر من الفنانين والأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي والفكري بالمدينة. ونحن إذ نهنئ الاتحاد الوطني للشباب على هذه المبادرة التي طال انتظارنا لها، نشد على أياديهم وندعم مسيرتهم فمن غير الشباب يحمل راية التغيير؟ ومن غير الشباب يتصدى للبناء والتجديد؟ ومن غير الشباب لصياغة الحياة القادمة كما انشد الشاعر محمد المكي.
من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر
من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدة والسير
من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياة القادمة
جيل العطاء المستجيش ضراوة ومصادمة
المستميت على المبادئ مؤمنا
المشرئب إلى النجوم لينتقي صدر السماء لشعبنا
جيلي أنا
جيل العطاء لعزمنا حتماً يزل المستحيل وننتصر
وسنبدع الدنيا الجديدة وفق ما نهوى
ونحمل عبء أن نبني الحياة ونبتكر
ان اهتمام الأمم كل الأمم قديما وحديثاً بالشباب لم يأت من فراغ، وآية ذلك أن الشباب في كل زمان ومكان هم أهم شرائح المجتمع على الإطلاق وذلك لعدة أسباب أهمها:
أولاً: لا جدال في أن الشباب هم أكثر شرائح المجتمع طاقة ونشاطاً وعنفواناً، وبالتالي هم الأقدر والأدرى على حمل عبء البناء والتعمير والتغيير.
ثانياً: يمثل الشباب عادة إرادة التغيير في مقابل إرادة الثبات عند الكبار، ومن هنا كان منشأ ظاهرة الصراع بين الأجيال بين قوة الشباب الجامحة المندفعة، وقوة الكبار الكابحة القابضة، وتحاول المجتمعات دائماً التخفيف من غلواء الصراع بالتواصل أي تواصل الأجيال، وذلك عن طريق النشاط الثقافي وعن طريق التوثيق والتدوين، إن كل ذلك من شأنه أن يكرس ويجسد ذلك التواصل المنشود.
ثالثاً: كما أن أهمية الشباب تكمن في كثرة المشاكل التي تصاحب تلك المرحلة من العمر من 12 إلى 20 عاماً والتي يطلق عليها علماء النفس فوران المراهقة Adolescence Tunmoil وهي مرحلة تتسم بالقلق والتوتر والتفكير المستمر في المستقبل، ونمو الغرائز، خاصة الغريزة الجنسية. فضلاً عن أحلام اليقظة والسرحان وجيشان العواطف.
ولا شك أن النشاط الثقافي والفكري كما أسلفنا هو الذي يخفف من نمو صراع الأجيال. كما يجد فيه الشباب متنفسا لإبراز مواهبهم، وقناة يعبرون من خلالها عن مشاعرهم وتطلعاتهم، ويتواصلون بالتالي عبرها مع شرائح المجتمع الأخرى، مستفيدين من خبرة الكبار، وتجارب المخضرمين في المجالات المختلفة. ولكي يأتي ذلك النشاط الثقافي والفكري أكله، وتجنى ثماره لابد أن يتحول إلى سلوك وفعل، أي أن تكون له قيمة منصرفة ووظيفة في المجتمع. فالمعرفة في حد ذاتها ليست قوة وإنما القوة في استخدامها وتطبيقها. والثقافة كما هي نظرية في المعرفة هي كذلك نظرية في السلوك، فما جدوى المعرفة إذا ظلت حبيسة جدران العقل لا تغادره إلى الواقع؟ وما جدوى المعرفة إذا لم تتحول إلى كينونة تخلق مجتمع أفضل وأجمل؟ وفي تراثنا السناري نجد أن أولاد جابر وهم من نسل غلام الله بن عائد الركابي، كانوا يعطون إجازات علمية أو شهادات لمن يتخرجون من مدارسهم، تصلح لأن تكون دستوراً للحركة العلمية والثقافية. وقد لخص الشيخ عبد الرحمن بن جابر أهداف التعليم في مملكة سنار في إجازته التي منحها لأحد تلامذته بعد أن أكمل نصبه: (مربياً للمريدين، وقدوة للمسترشدين، وملجأ للفقراء والمساكين).
وتفيد هذه الموجهات أن هدف المعرفة أو الثقافة ليست فقط التأهيل لنيل حرفة أو إشباع التطلعات الذاتية للدارس أو حشو المعلومات في ذهنه ليعد في طائفة المثقفين، وإنما المقصود إعداد الدارس ليكون مربياً لغيره كما أن مفهوم القدوة هو مفهوم محوري في التعليم الإسلامي، لأن الإيمان ما وقرة في القلب وصدقه العمل، ولان القدوة الحسنة تحرك خصال الخير في النفس البشرية وتقضي على نوازع الهوى وتعطي العبارة "ملجأ الفقراء والمساكين" المدلول الاجتماعي للثقافة والمعرفة، فليس هدف التعليم خلق طبقة متعالية منعزلة عن سواد الشعب، وإنما هدف المعرفة أو الثقافة المتحصلة من التعليم إعداد الكوادر القادرة على الاستجابة لاحتياجات الجماعة الضعيفة المعرضة لنوازل الطوارق الاجتماعية فهم أحق الناس بالرعاية والاهتمام.
ليس المطلوب إذن خلق هذه الصفوة اللاهثة للسكن المريح والتعليم الراقي والنمط الاستهلاكي العالي في تنكر للفقر والفقراء وازدراء لواقع وتأفف من معايشة أهله .
والشاهد أن الخط يدور دوما حول محور الأخلاق فإذا أردت أن تحسن حظك في الحياة فلتبدأ بتحسين حظوظ الآخرين . لكونك في نهاية المطاف جزءاً من كل، فرداً في جماعة، حلقة في سلسلة، ذلك هو الوجه الإنساني للثقافة الذي قال عنه السير دوجلاس نيوبولد احد السكرتيرين الإداريين إبان الحكم الثنائي في السودان، انه أهم المكونات الضرورية للشخصية المثقفة، إذ لا أستطيع أن اصف إنسانا بأنه مثقف لو لم يكن لدي هذه الصفة والتي تتألف من أربعة عناصر: (رحابة الخيال، التسامح، البساطة أو التواضع، روح الدعابة) فالخيال هو الصفة التي يضفيها الإنسان الذكي إلى ما يقرأ أو ما يكتب لكي يزداد فهماً له، ولكي يجعله اقرب إلى الحياة والواقع.
أما التسامح فإن المثقف يرى أن الحقيقة أمر نسبي وإنها متعددة الوجوه. وان الجمال مثلاً يشبه قوس قزح في تعدد ألوانه وإن العالم أخلاط شتى من البشر.
والبساطة أو التواضع دلالة على وعي الإنسان بمحدوديته في الزمان والمكان، وإن العظمة الحقيقية في هذه البساطة.
أما روح الدعابة فعلامة من علامات الصحة النفسية والوجدان السعيد، وعلى نزعة التفاؤل والفرح بالحياة والأحياء.
عود على بدء:
نعود الآن للحديث عن الفنان الراحل حسن خليفة العطبراوي، الذي جاء على لسان صديقه الحميم الأستاذ حسن أحمد الشيخ هذا الرجل المشبع بذكريات نادرة عن رموز المدينة التي أحبها ونزر نفسه لخدمتها وإعلاء شأنها، تحدث الأستاذ حسن حديثاً طيباً ونادراً ومفيداً عن سيرة العطبراوي ومسيرته، مستعرضاً في دقة متناهية انجازاته وإبداعاته عبر محطات مختلفة من عمره المديد. وتستمد كلمات الأخ حسن وذكرياته عن العطبراوي أهميتها ومصداقيتها من كونه أكثر الناس التصاقاً بالفنان العطبراوي الذي كان يعمل بجزارة عطبرة بجانب والد الأستاذ حسن ونأمل أن نرى قريباً كل ذلك موثقاً في كتيب منل عودنا الأستاذ دائماً.
ولا يفوتنا أن نحي الأستاذ الفنان حسن محي الدين الذي أتحف الجمهور برائعات كثر من روائع الفنان الراحل، أداء متميز، وحماس متدفق.
والحقيقة أن الحديث عن العطبراوي لابد أن يرتبط بشكل أو آخر برائدين آخرين هما: الفنان الراحل الرشيد مهدي، وشيخ الوراقين المرحوم عوض الله دبورة، وآية ذلك أن هذا الثلاثي المتفرد يمثل مثلثاً ذهبياً في ساحات العطاء بأم المدائن، فقد جمعت بينهم أكثر من صلة وأكثر من خصيصة. فهم أولاً أبناء جيل واحد. وزمن واحد صعب جثم فيه المستعمر على كل البلاد وظلم العباد ،ولقد كان ثلاثتهم سابقين لعصرهم متفوقين على زمانهم.
اختار العطبراوي طريق الفن الوعر فأجاد وأبدع فغنى للوطن وأنشد للعاملين واحتفى بالحب في أهازيج نادرة ورائعة وأصبح بشهادة الجميع أمير الأغنية الوطنية بلا منازع، غنى العطبراوي اذن الغناء الجميل في الزمن الصعب.
واختار دبورة مهنة الوراقين والمراسلين الصحفيين وهي مهنة محفوفة بالمتاعب وضيق الرزق.
أما ثالثهم الرشيد مهدي فقد انخرط في مهنة التصوير الفوتوغرافي وولج منها من ثم إلى عالم الفن السابع (السينما).
والشاهد أن ثلاثتهم اختاروا مهناً غير مألوفة وغير عادية ومحفوفة بالمكاره وعلى قدر غير يسير من المغامرة والمعاناة. ولقد كانوا جميعاً أصحاب رسالات كل في مجاله وآية ذلك أنهم جميعاً لم تراودهم الرغبة في الرحيل إلى المركز بحثا عن الشهرة وطلبا للمال واستقواءً بالأضواء ووسائل الإعلام، وكان بوسعهم لكنهم في المقابل آثروا البقاء حباً في مدينتهم ووفاءً لها. ومن ثم صنع كل منهم مستقبله وشاد مجده بمقدرته الذاتية وأحلامه المتقدة وأفقه الواسع.
كل ذلك يؤكد أن الموهبة الحقيقية لا تحتاج كثيراً للأضواء كي تنمو وتزدهر، كما يقف شاهداً في نفس الوقت على أن ذلك المثلث الذهبي كان نموذجاً نادراً للوفاء والتضحية ونكران الذات، وعنواناً للتفوق والريادة، وبرافو: الاتحاد الوطني للشباب.

سد الروصيرص منح البلاد مدينة ساحرة اسمها "الدمازين"

صباح الخير (يا عمران)
على خلفية البدء في مشروع التعلية إلى جانب الكهرباء والمياه
سد الروصيرص منح البلاد مدينة ساحرة اسمها "الدمازين"


فاتحة:
ارتبط قيام مشروعات الري الكبرى على مجرى النيل في البلاد باتفاقية مياه النيل الموقعة بين مصر والسودان في العام 1959م والتي جاءت بديلاً من اتفاقية عام 1929م. وقد أعطت الاتفاقية الأخيرة السودان 18.5 مليار متر مكعب من إيراد النيل البالغ 83 مليار متر مكعب. وهذه الحصة التي حددت قبل خمسين عاماً من الآن يستهلك منها السودان 13.5 مليار متر مكعب في مشروعات الري ويذهب الفائض والذي يبلغ خمسة مليار متر مكعب إلى مصر. ومن هنا كانت الحاجة الماسة لتعلية خزان الروصيرص حتى تتمكن البلاد من استهلاك هذا الفائض.
نشأ الخزان إذن وفق اتفاقية عام 1959م. وهو عبارة عن سد خرساني على بعد (550) كلم جنوب الخرطوم. وقد شرع فعليا في بنائه وفي ذلك العام بغرض تخزين المياه الفائضة من النيل الأزرق لاستهلاكها في الري وتوليد الكهرباء وانتهت المرحلة الأولى منه عام 1966م ويوفر الخزان مياه الري لكل المشروعات المروية بالنيل الأزرق بمساعدة خزان سنار كما يولد حوالي نصف الطاقة الموجودة في الشبكة القومية. هذا وقد كان للنقل الحديدي دوراً هاماً في بناء السد وقيام مدينة جديدة هي مدينة الدمازين حاضرة ولاية النيل الأزرق حالياً.
* امتداد النيل الأزرق (سنار ـ الروصيرص 1952 ـ 1954)م (227) كلم وأثره:
لقد وضعت حكومة السودان الاتصال السريع بالسكك الحديدية بين سنار وجوبا موضع الاعتبار خاصة وانها وبمقتضى قرارات مؤتمر جوبا 1947م قد تخلت عن سياستها الانفصالية السابقة الرامية إلى سلخ الجنوب عن الشمال. وكان التخطيط الموضوع قد صُمم بحيث يمتد الخط الحديدي من محطة السوكي على خط حديد (سنار ـ القضارف) في اتجاه الجنوب بحذاء بالنيل الأزرق وعلى جانبه الأيمن (الضفة الشرقية) في ارض البطانة الجنوبية إلى الروصيرص ثم يعبر الخط المقترح النيل الأزرق جنوب الروصيرص من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر متجهاً إلى الكرمك على الحدود. وهنا يعبر الخط ارض الجزيرة الجنوبية متجهاً إلى ملكال. ومن ثم يعبر الخط فم السوباط على كبري يوضع بين شاطئيه. ثم يعبر مجرى بحر الجبل شمال بور مباشرة إلى جانبه الأيسر لكي يتجنب عدداً كبيراً من الروافد والنهيرات الصغيرة بين بور وجوبا والتي تتصل بالنهر على جانبه الأيمن.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال، لماذا هذا التخطيط الملتوي المكلف؟ أما كان الأجدر أن يمتد الخط مباشرة من كوستي إلى ملكال ومنها إلى جوبا؟ لقد كان للحكومة منطقها الخاص، فالظاهر أن التخطيط كان قد تعمد عدم الربط بين كوستي وملكال لسببين هامين:
الأول: عدم ازدواج المواصلات فيما بينهما حتى لا تشتد المنافسة بين الخدمة النهرية والسكك الحديدية وهو نفس المنطق الذي دفع الحكومة إلى نزع خط ربك ـ جبلين في ديسمبر 1944م وذلك بعد عامين فقط من تشييده أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)م لخدمة المجهود الحربي.
الثاني: خدمة مناطق جديدة ومشروعات مقترحة في البطانة الجنوبية للتوسع الزراعي.
والجدير بالذكر إن تعلق السودان بنتاج القطن والرغبة الملحة في مزيد من الأرض المزروعة قطناً، قلب ذلك المشروع من أساسه. وآية ذلك التعديلات الأساسية التي أدخلت عليه عندما دخل مرحلة التنفيذ، إذ فضلت الحكومة امتداد الخط على الجانب الأيسر للنهر في ارض الجزيرة. وعليه فضلت الحكومة امتداد الخط الحديدي من سنار التقاطع بالضفة الغربية للنيل الأزرق إلى الدمازين حوالي 227 كلم، وشرع في بنائه في أكتوبر 1952م . وقد تم ذلك على ثلاث مراحل: أنجز منها في المرحلة الأولى 66 كلم من سنار إلى سنجة في الفترة من أكتوبر إلى ديسمبر 1952م ثم استؤنف العمل في المرحلة الثانية في أكتوبر 1953م مبتدئاً من سنجة ووصلت السكة إلى موضع المحطة قبالة الروصيرص التي تبعد 154كلم من سنجة وذلك في اليوم الثالث والعشرين من مايو 1954م. وقد تم افتتاحه للتجارة والنقل في شهر يونيو من نفس العام. وكان هذا أول خط رئيسي يتم بناؤه بواسطة العمال والفنيين السودانيين تصميماً وتنفيذاً. أما المرحلة الثالثة والأخيرة فقد امتد فيها الخط لمسافة سبعة كيلو مترات إلى موقع السد على النيل الأزرق في شتاء عام (1958 ـ 1959)م.
والشاهد أن هذا الخط قد مكن من سحب الأسطول الملاحي الصغير بمدينة السوكي. وكان ذلك آخر العهد بخدمات النيل الأزرق الملاحية. كما اسهم بشكل فعال في نقل معدات وآلات بناء سد الروصيرص وحفر القنوات التي تتطلبها مشروعات التنمية الزراعية في ارض كنانة وترتب على امتداده أيضا نشاط فعلي في أنحاء متفرقة على طول امتداد الخط الحديدي على مياه الطلمبات الخصوصية.
* الدمازين: (هبة السد)
ويرجع تاريخ مدينة الدمازين إلى ستينات القرن الماضي مع إنشاء خزان الروصيرص العملاق الذي يعد اكبر مولد للطاقة الكهرومائية في إفريقيا قبل إنشاء سد مروي. وترجع التسمية إلى الفترات التي كانت تتواجد بكثرة في ذلك الوقت حيث يسميها السكان المحليون (الامازينق) بلغة (البرتا) لغة أغلبية أهل الولاية. وبتعاقب الليل والنهار ودوران الأيام صارت التسمية شيئاً فشيئاً (الدمازين).
والشاهد أن المدينة هي هبة السد. ولم تنمو الدمازين تماما كمدينة عطبرة كعادة المدن السودانية خاصة من قرية صغيرة ثم كبيرة إلى مدينة بل كسرت الدمازين كل نظريات علوم السكان والمجتمع ونشوء المدن، حيث ولدت مدينة مع الروصيرص. ونشأت وترعرعت مع السد لتصبح واحدة من كبرى مدن الوطن. فسد الروصيرص الذي منح البلاد النور منحها أيضا مدينة ساحرة اسمها (الدمازين) بجزرها الصخرية وشواطئها الخلابة وطبيعتها التي تفوق الوصف. والشاهد أن أكثر المتفائلين لم يكن بمقدوره أن يتخيل تحول هذه الغابة المليئة بالأفيال والفئران ومختلف الحيوانات إلى واحدة من أروع مدن البلاد وفي فترة وجيزة.
والدمازين اليوم هي حاضرة ولاية النيل الأزرق وتتوسط الولاية. وهي المدينة التجارية الأولى والمركز الرئيسي لدواوين الدولة ويوجد بها كذلك اللواء 14 مشاة. وتشكل الدمازين صورة حية للسودان حيث تضم كل القبائل السودانية: البرتا، الهمج، الفونج، الهوسا، الفلاتة، الانقسنا، إلى جانب بطون العرب المختلفة والقليل من الأثيوبيين ويعيش الجميع في تجانس وانصهار ووئام.
وعلى صعيد التعليم توجد بالمدينة عشرات المدارس على مستوى التعليم العام ـ أساس و ثانوي، كما توجد بها رئاسة جامعة النيل الأزرق والتي تضم كليات: التربية، الهندسة، الاقتصاد، تنمية المجتمع. هذا إلى جانب بعض المراكز البحثية ومركز لجامعة السودان المفتوحة. وتجدر الإشارة إلى أن رئاسة الجامعة بالمدينة نظمت تظاهرة ثقافية ضخمة في عام 2005م بمناسبة مرور خمسمائة عام على قيام مملكة سنار 1505م أمها لفيف من كبار المؤرخين وأساتذة الفلكلور من معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية. وكان على رأس تلك الكوكبة من العلماء: بروفيسور يوسف فضل، وبروفيسور محمد المهدي البشرى، ودكتورة انتصار صغيرون الزين.. الخ. وقد كان لي شرف المساهمة في تلك الاحتفائية بورقة بحثية بعنوان (ملامح من المجتمع السوداني في العهد السناري).
وعلى المستوى التجاري والاقتصادي يعتبر سوق الدمازين من الأسواق الرائدة لبيع المحاصيل الزراعية ومحاصيل الصادر مثل: زهرة الشمس والسمسم. وتوجد بالمدينة محطة كهرباء بطاقة اثني عشر كيلو واط. والطريق الرئيسي المؤدي إلى المدينة شمالاً هو الطريق القومي: سنجة ـ الدمازين. وهناك طرق أخرى غرباً وجنوباً تربط أرياف الولاية بالمدينة.
* مشروع التعلية: ماذا يحقق للبلاد والعباد؟
باكتمال مشروع التعلية تترقب الدمازين وكافة الولاية تحولاً تنموياً يؤدي إلى تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين وزيادة الميزان التجاري السوداني، وآية ذلك انه بجانب مساهمة المشروع في ري المساحات الزراعية الموجودة الآن، يمكن كذلك ري حوالي ثلاثة مليون فدان صالحة للزراعة الأمر الذي سيمكن المواطنين من الزراعة في كل المواسم بدلاً عن موسم الخريف فقط. وهذا بدوره يمكنهم من زراعة محاصيل جديدة إضافة إلى القديمة، والى جانب ذلك كله القضاء على العطالة الموسمية بفضل تيسر الزراعة طوال العام.

دنقلا .. أقدم واهم المراكز الريادية للانبعاث السناري

دنقلا
أقدم واهم المراكز الريادية للانبعاث السناري في سودان وادي النيل (1504 ـ 1821)م


فاتحة:
هناك رافدان لحركة الانبعاث السناري:
الأول: وتمثل في نهوض مراكز إسلامية في أطراف بلاد النوبة ومداخلها التي كانت بؤراً لإشعاع الثقافي لمناطق الداخل. وقد جذبت إليها أعدادا كبيرة من سكان الدواخل في حالة تفاعل يومي مع حركة المجتمعات الإسلامية الجديدة، واهم هذه المراكز هي المدن الساحلية مثل: زبلع وسواكن وعيزاب ومدن الدواخل مثل : دنقلا واربجي ، إيس (الكوة) كترانج، بربر ، الحلفاية.
ولقد قامت هذه المدن بدور هام في التماسك لاجتماعي والأمني وأنجبت صفوة جديدة أسهمت في تجاوز الحدود العرقية والاجتماعية، كما أسهمت العقلية الجديدة في بناء مجتمع ذابت فيه حدة العصيان والأعراف تحت رأية لا اله إلا الله محمد رسول الله وأصبحت بعض المدن كالدامر في القرن الثامن العشر على مذهب واحد وطريقة واحدة وعقلية واحدة.
الثاني: وتمثل في حركة الرجال الأفذاذ الذين مهدوا لقيام مملكة سنار بالتحضير الفكري والروحي والثقافي وخير ممثل لهذا الجيل من الجهابذة الفقيه غلام الله بن عائد والشيخ أبو دنانة والشيخ محمود العركي. وقد قام على جهود هذا الجيل، جيل آخر يتمثل في أولاد جابر والشيخ إدريس ود الأرباب وفرح ود تكتوك وحسن ود حسونة وأرباب العقائد.. الخ. هذا وتعتبر مدينة دنقلا خير نموذج للرافد الأول، بينما يقف غلام الله وذريته في مقدمة العلماء الذين اثروا الرافد الثاني.
دنقلا رائد التنوير:
برزت دنقلا كأهم مركز للتكييف الإسلامي، إذ فيها انشيء أول مسجد على عهد عبد الله بن أبي السرح (21هـ) أو قبل ذلك، أي بعد اقل من عشر سنوات على وفاة النبي (ص)، فهي بذلك حازت شرف كونها أول مكان عبد فيه الله سبحانه وتعالى في السودان وفق شرائع الإسلام، وبحلول عام 316هـ تم القضاء على آخر ملوك دنقلا المسيحيين (الملك كوني)، وقد جاء التحول الإسلامي في وقت ورثت فيه مصر عظمة بغداد الثقافية بعد أن أطاح بها التتر عام 656هـ ما يفسر جزئيا اشتداد حركة الإسلام في السودان. وكما ورد فان شهرة دنقلا قد طارت في الآفاق فقال عنها ابن خلدون في مقدمته: (وحاضرة بلاد النوبة مدينة دنقلا، وهي شرق النيل وبعدها علوة) ووصفها احد الرحالة قائلاً : "وجد بلدة تدعى دنقلا وهي مأهولة بشكل طيب للغاية وتضم حوالي عشرة آلاف أسرة ولكن بيوتها قبيحة ومبنية بأعمدة رفيعة من الطين. والسكان أغنياء متحضرون لأنهم يزاولون في القاهرة، وفي كل مدن مصر، تجارة الأقمشة والأسلحة وسائر البضائع الأخرى".
والشاهد أن أهل دنقلا تفاعلوا مع سكان مصر منذ القرن الخامس عشر، واخذوا الحضارة الإسلامية وزاولوا التجارة، بما يفيد أن دنقلا قد انصهرت في بوتقة الحضارة الإسلامية نتيجة لاحتكاك دنقلا بالعباسيين والفاطميين والمماليك وغيرهم مما فرض عليها دور نقل وامتصاص الحضارة الغالبة لان المغلوب مولع بتقليد غالبه، كما أن الدعاة الإسلاميين اخذوا في الهجرة إلى دنقلا منذ زمن بعيد، فقد ذكر أن الخليفة هارون الرشيد (170 ـ 193)هـ أرسل سبعة من علماء الدولة العباسية فوصلوا دنقلا وأقاموا بها وتناسلت منهم ذراري كثيرة، وما تزال أراضي دنقلا الغدار عامرة بقبور إعداد فمن يحسبون من صالحي البديرية والركابية والجابرية، الذين أسهموا في نشر تعاليم الدين الإسلامي.
رواد التنوير:
غلام الله بن عائد وأحفاده (أولاد جابر):
وأساس هذه المدرسة التنويرية وابعد العلماء الذين استقروا في دنقلا تأثيراً هو غلام الله بن عائد وقد بدا جهاده العلمي قبل قيام دولة سنار وآية ذلك انه وصل في النصف الثاني من القرن الرابع عشر لدنقلا من جزيرة العرب عبر اليمن وزبلع، مدفوعاً بأشواق نشر الإسلام في ارض النوبة بعد أن وصلته أخبار إقبال أهلها على اعتناق الإسلام. استقر غلام الله في دنقلا واتخذ منها مركزاً لبث دعوته ونشاطه العلمي والروحي ثم دخل هذا النشاط مرحلة كبرى بظهور أحفاده المشهورين بأولاد جابر الذين أرسو قاعدة رسالتهم في دار الشايقية.
وقد كان لهذه العائلة دور كبير في بسط تعاليم الدين الإسلامي في السودان في ظل المملكة السنارية. ويمكن أن نستعين برسم تقريبي لشجرة هذه العائلة لتوضيح أثرها ودورها في نشر حركة الثقافة الإسلامية في السودان.
وكما في الرسم فان غلام الله قد أنجب رباط وركاب، وتناسلت ذرية هذا الأخير لتمنح أهل السودان السادة الركابية وهم ذرية خير وبركة، وما تزال طائفة من أهل البيت تقوم على خدمة الإسلام. أما ابنه الآخر رباط فقد ظهرت بركته في ابنه دهمش وحفيده عون، أما دهمش فيعتبر والد فرع من البديرية وهم الدهمشية الذين يقال أن نصف أولياء السودان ينحدرون من أصلابهم، وما تزال قبابهم في (دبة الفقراء) (هي الآن قرية صغيرة غرب النيل وجنوب مدينة الدبة في محافظة مروي) وعلى امتداد السودان تشهد بذلك، وأشهر رواد هذه العائلة آل إسماعيل الولي (الأزهري) وال الترابي والغبش وآل الشيخ الجعلي وغيرهم من رواد الحركة الإسلامية السودانية. أما حفيده عون، فقد جاء بأولاد جابر الأربعة وهم: إبراهيم وإسماعيل وعبد الرحمن وعبد الرحيم وأختهم فاطمة وقد وصفهم ود ضيف الله بأنهم كالطبائع الأربعة: أعلمهم إبراهيم وأصلحهم عبد الرحمن وأورعهم إسماعيل وأعبدهم عبد الرحيم . وقد درس هؤلاء الإخوة في الأزهر الشريف على مراحل مختلفة ثم عادوا ليرعوا الحركة العلمية في النصف الثاني من القرن العاشر الهجري. ويعتبر إبراهيم أول من درس مختصر خليل ببلاد الفونج، ومختصر خليل لا يدرسه إلا المتقدمون في المذهب المالكي لأنه كتاب صعب اللغة ويحتاج ممن يريد فهمه أو تدريسه أن يكون ملماً بمقدمات الفقه المالكي. كما أسس إبراهيم مركزاً علمياً في جزيرة ترنج أحد جزر الشايقية وصار قبلة للطلاب وتمثل غرسه في أربعين تلميذاً أبرزهم أخوه عبد الرحمن بن جابر المؤسس الثاني لمدرسة أولاد جابر، وقد انشأ ثلاثة مراكز علمية، أي مساجد في دار الشايقية وكورتي والدفار. وكان يقضي في كل مسجد أربعة أشهر يقوم بالتدريس فيه. ومن أشهر تلاميذه عبد الله بن دفع الله العركي الذي صحبه سبع سنوات وعاد مصحوباً بأربعة من تلاميذ مدرسة أولاد جابر ليؤسس مدرسة العركيين في منطقة الجزيرة أما إسماعيل أورعهم فقد كان حريصا على تطبيق دقائق فقه المال المغصوب، فكان لا يستعمل الماء الذي يجري في جداول سواقي الشايقية لأنه كان يعتقد بأنه ماء محرم لان الشايقية درجوا على اخذ ثيران غيرهم بالقوة ثم يستخدمون تلك الثيران في سواقيهم.
أما فاطمة فقد كانت تصرف من حر مالها على رعاية الطلاب وتعليمهم وأورد صاحب الطبقات أنها كانت تنفق قبل زواجها على 24 فقيراً وقد أسس ابنها الشيخ صغيرون مركزاً دينيا في (قوز العلم) في منطقة الجعليين ونشأت صلة قوية بين مدرسة قوز العلم ومدرسة الشيخ إدريس ود الأرباب الذي نهض بواجب الحركة العلمية والمعرفية في العيلفون. وقد تخرج في مدرسة قوز العلم طائفة من الفقهاء الذين نشروا العلوم الشرعية في مناطق الهلالية هذا بالإضافة إلى دور أولاد جابر في التعليم والفقه وكذلك في القضاء الشرعي.
وكان أولاد جابر يعطون إجازات علمية (شهادات) لمن يتخرجوا في مدارسهم وقد لخص الشيخ عبد الرحمن بن جابر أهداف التربية والتعليم في مملكة سنار الإسلامية في إجازته التي منحها لأحد تلامذته بعد أن أكمل تعليمه حيث نصبه: مربيا للمريدين وقدوة للمستشهدين وملجأ للفقراء والمساكين.
وتصلح هذه الإجارة لان تكون دستوراً للحركة العلمية وآية ذلك أن هدف التعليم ليس فقط التأهيل لنيل حرفة أو إشباع التطلعات الذاتية للدارس أو حشو المعلومات في ذهن الدارس ليعد في طائفة المثقفين وهذا ما يطلق عليه حديثاً مصطلح التربية المصرفية. وهي تربية عقيمة وجامدة، يكون التلميذ فيها خاملاً وبلا نشاط، ومجرد مستودع للمعلومات. أما التربية الواردة في إجازة الشيخ عبد الرحمن فتهدف لأعداد الدارس ليكون مربياً لغيره والشاهد أن التربية عملية شاقة وصعبة وتحتاج لخبرة ومراس وصبر كما يجب أن يكون المعلم قدوة، إذ لا كبير طائل لقول من غير عمل. ومفهوم القدوة مفهوم محوري في التعليم الإسلامي، لأن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. ولان القدوة الحسنة تحرك خصال الخير في النفس البشرية وتقضي على نوازع الهوى وتعطي العبارة الأخيرة: (ملجأ للفقراء والمساكين) المدلول الاجتماعي لحركة التعليم الإسلامي فليس هدف التعليم خلق طبقة متعالية ومنعزلة عن سواد الشعب وإنما هدف التعليم إعداد الكوادر القادرة على الاستجابة لاحتياجات الجماعات الضعيفة والمعرضة لنوازل الطوارق الاجتماعية فهؤلاء أحق الناس بالرعاية والاهتمام. ولعل هذه العبارة تصلح لأن تكون دستوراً لحركتنا التعليمية المعاصرة.
لقد أدت مدرسة أولاد جابر دورها في تمكين حركة نشر الفقه والتعليم في ديار مملكة سنار الإسلامية في ظروف ما بعد قيام المملكة مما قوى دعائمها، وآية ذلك أنها أصبحت تستند إلى حركة فكرية وعلمية تسهم في بث الوعي ونشر الدين في ربوع المملكة التي كانت جماهيرها تعاني من الجهل والأمية بل والوثنية.
وكما أسلفنا فان أساس هذه المدرسة ورائدها هو غلام الله بن عائد الذي بدأ مسيرته العلمية قبل قيام دولة سنار الإسلامية وسقوط الكيان السياسي المسيحي، وعمدت بعد ذلك إلى تركيز أقدام حركة الثقافة الإسلامية، وقد ورد ذلك في سياق الكلام عن دنقلا كمركز علمي من مراكز حركة التكييف الإسلامي التي أدت إلى نشر الثقافة الإسلامية في ربوع السودان.

رؤى الساعة 25
أبو ماضي
أن الطيور الدمى سيان في نظري والورق إن جلست هذي أغانيها
إن كانت النفس لا تبدو محاسنها في البر صار غناها من مخازيها

استراحة العدد
المجلس البلدي (بيرم التونسي)
قد أوقع القلب في الأشجان والكمد هوى حبيب يسمى المجلس البلدي
إذا الرغيف أتى فالنصف آكله والنصف اتركه للمجلس البلدي
وان جلست فجيبي لست اتركه خوف اللصوص وخوف المجلس البلدي
وماكسوت عيالي في الشتاء ولا في الصيف إلا كسوت المجلس البلدي
كأن أمي، بل الله تربتها أوصت فقالت "أخوك المجلس البلدي"
أخشى الزواج فإن يوم الزواج أتى يبقى عروسي صديقي المجلس البلدي
وربما وهب الرحمن لي ولداً في بطنها يدعيه المجلس البلدي
يا بائع الفجل بالمليم واحدة كم للعيال؟ وكم للمجلس البلدي؟

المؤلف

صورتي
عطبرة, نهر النيل, Sudan
مؤرخ وأستاذ مادة التاريخ بالجامعات السودانية