محتويات الموقع

الأربعاء، 9 ديسمبر 2009

سد الروصيرص منح البلاد مدينة ساحرة اسمها "الدمازين"

صباح الخير (يا عمران)
على خلفية البدء في مشروع التعلية إلى جانب الكهرباء والمياه
سد الروصيرص منح البلاد مدينة ساحرة اسمها "الدمازين"


فاتحة:
ارتبط قيام مشروعات الري الكبرى على مجرى النيل في البلاد باتفاقية مياه النيل الموقعة بين مصر والسودان في العام 1959م والتي جاءت بديلاً من اتفاقية عام 1929م. وقد أعطت الاتفاقية الأخيرة السودان 18.5 مليار متر مكعب من إيراد النيل البالغ 83 مليار متر مكعب. وهذه الحصة التي حددت قبل خمسين عاماً من الآن يستهلك منها السودان 13.5 مليار متر مكعب في مشروعات الري ويذهب الفائض والذي يبلغ خمسة مليار متر مكعب إلى مصر. ومن هنا كانت الحاجة الماسة لتعلية خزان الروصيرص حتى تتمكن البلاد من استهلاك هذا الفائض.
نشأ الخزان إذن وفق اتفاقية عام 1959م. وهو عبارة عن سد خرساني على بعد (550) كلم جنوب الخرطوم. وقد شرع فعليا في بنائه وفي ذلك العام بغرض تخزين المياه الفائضة من النيل الأزرق لاستهلاكها في الري وتوليد الكهرباء وانتهت المرحلة الأولى منه عام 1966م ويوفر الخزان مياه الري لكل المشروعات المروية بالنيل الأزرق بمساعدة خزان سنار كما يولد حوالي نصف الطاقة الموجودة في الشبكة القومية. هذا وقد كان للنقل الحديدي دوراً هاماً في بناء السد وقيام مدينة جديدة هي مدينة الدمازين حاضرة ولاية النيل الأزرق حالياً.
* امتداد النيل الأزرق (سنار ـ الروصيرص 1952 ـ 1954)م (227) كلم وأثره:
لقد وضعت حكومة السودان الاتصال السريع بالسكك الحديدية بين سنار وجوبا موضع الاعتبار خاصة وانها وبمقتضى قرارات مؤتمر جوبا 1947م قد تخلت عن سياستها الانفصالية السابقة الرامية إلى سلخ الجنوب عن الشمال. وكان التخطيط الموضوع قد صُمم بحيث يمتد الخط الحديدي من محطة السوكي على خط حديد (سنار ـ القضارف) في اتجاه الجنوب بحذاء بالنيل الأزرق وعلى جانبه الأيمن (الضفة الشرقية) في ارض البطانة الجنوبية إلى الروصيرص ثم يعبر الخط المقترح النيل الأزرق جنوب الروصيرص من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر متجهاً إلى الكرمك على الحدود. وهنا يعبر الخط ارض الجزيرة الجنوبية متجهاً إلى ملكال. ومن ثم يعبر الخط فم السوباط على كبري يوضع بين شاطئيه. ثم يعبر مجرى بحر الجبل شمال بور مباشرة إلى جانبه الأيسر لكي يتجنب عدداً كبيراً من الروافد والنهيرات الصغيرة بين بور وجوبا والتي تتصل بالنهر على جانبه الأيمن.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال، لماذا هذا التخطيط الملتوي المكلف؟ أما كان الأجدر أن يمتد الخط مباشرة من كوستي إلى ملكال ومنها إلى جوبا؟ لقد كان للحكومة منطقها الخاص، فالظاهر أن التخطيط كان قد تعمد عدم الربط بين كوستي وملكال لسببين هامين:
الأول: عدم ازدواج المواصلات فيما بينهما حتى لا تشتد المنافسة بين الخدمة النهرية والسكك الحديدية وهو نفس المنطق الذي دفع الحكومة إلى نزع خط ربك ـ جبلين في ديسمبر 1944م وذلك بعد عامين فقط من تشييده أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)م لخدمة المجهود الحربي.
الثاني: خدمة مناطق جديدة ومشروعات مقترحة في البطانة الجنوبية للتوسع الزراعي.
والجدير بالذكر إن تعلق السودان بنتاج القطن والرغبة الملحة في مزيد من الأرض المزروعة قطناً، قلب ذلك المشروع من أساسه. وآية ذلك التعديلات الأساسية التي أدخلت عليه عندما دخل مرحلة التنفيذ، إذ فضلت الحكومة امتداد الخط على الجانب الأيسر للنهر في ارض الجزيرة. وعليه فضلت الحكومة امتداد الخط الحديدي من سنار التقاطع بالضفة الغربية للنيل الأزرق إلى الدمازين حوالي 227 كلم، وشرع في بنائه في أكتوبر 1952م . وقد تم ذلك على ثلاث مراحل: أنجز منها في المرحلة الأولى 66 كلم من سنار إلى سنجة في الفترة من أكتوبر إلى ديسمبر 1952م ثم استؤنف العمل في المرحلة الثانية في أكتوبر 1953م مبتدئاً من سنجة ووصلت السكة إلى موضع المحطة قبالة الروصيرص التي تبعد 154كلم من سنجة وذلك في اليوم الثالث والعشرين من مايو 1954م. وقد تم افتتاحه للتجارة والنقل في شهر يونيو من نفس العام. وكان هذا أول خط رئيسي يتم بناؤه بواسطة العمال والفنيين السودانيين تصميماً وتنفيذاً. أما المرحلة الثالثة والأخيرة فقد امتد فيها الخط لمسافة سبعة كيلو مترات إلى موقع السد على النيل الأزرق في شتاء عام (1958 ـ 1959)م.
والشاهد أن هذا الخط قد مكن من سحب الأسطول الملاحي الصغير بمدينة السوكي. وكان ذلك آخر العهد بخدمات النيل الأزرق الملاحية. كما اسهم بشكل فعال في نقل معدات وآلات بناء سد الروصيرص وحفر القنوات التي تتطلبها مشروعات التنمية الزراعية في ارض كنانة وترتب على امتداده أيضا نشاط فعلي في أنحاء متفرقة على طول امتداد الخط الحديدي على مياه الطلمبات الخصوصية.
* الدمازين: (هبة السد)
ويرجع تاريخ مدينة الدمازين إلى ستينات القرن الماضي مع إنشاء خزان الروصيرص العملاق الذي يعد اكبر مولد للطاقة الكهرومائية في إفريقيا قبل إنشاء سد مروي. وترجع التسمية إلى الفترات التي كانت تتواجد بكثرة في ذلك الوقت حيث يسميها السكان المحليون (الامازينق) بلغة (البرتا) لغة أغلبية أهل الولاية. وبتعاقب الليل والنهار ودوران الأيام صارت التسمية شيئاً فشيئاً (الدمازين).
والشاهد أن المدينة هي هبة السد. ولم تنمو الدمازين تماما كمدينة عطبرة كعادة المدن السودانية خاصة من قرية صغيرة ثم كبيرة إلى مدينة بل كسرت الدمازين كل نظريات علوم السكان والمجتمع ونشوء المدن، حيث ولدت مدينة مع الروصيرص. ونشأت وترعرعت مع السد لتصبح واحدة من كبرى مدن الوطن. فسد الروصيرص الذي منح البلاد النور منحها أيضا مدينة ساحرة اسمها (الدمازين) بجزرها الصخرية وشواطئها الخلابة وطبيعتها التي تفوق الوصف. والشاهد أن أكثر المتفائلين لم يكن بمقدوره أن يتخيل تحول هذه الغابة المليئة بالأفيال والفئران ومختلف الحيوانات إلى واحدة من أروع مدن البلاد وفي فترة وجيزة.
والدمازين اليوم هي حاضرة ولاية النيل الأزرق وتتوسط الولاية. وهي المدينة التجارية الأولى والمركز الرئيسي لدواوين الدولة ويوجد بها كذلك اللواء 14 مشاة. وتشكل الدمازين صورة حية للسودان حيث تضم كل القبائل السودانية: البرتا، الهمج، الفونج، الهوسا، الفلاتة، الانقسنا، إلى جانب بطون العرب المختلفة والقليل من الأثيوبيين ويعيش الجميع في تجانس وانصهار ووئام.
وعلى صعيد التعليم توجد بالمدينة عشرات المدارس على مستوى التعليم العام ـ أساس و ثانوي، كما توجد بها رئاسة جامعة النيل الأزرق والتي تضم كليات: التربية، الهندسة، الاقتصاد، تنمية المجتمع. هذا إلى جانب بعض المراكز البحثية ومركز لجامعة السودان المفتوحة. وتجدر الإشارة إلى أن رئاسة الجامعة بالمدينة نظمت تظاهرة ثقافية ضخمة في عام 2005م بمناسبة مرور خمسمائة عام على قيام مملكة سنار 1505م أمها لفيف من كبار المؤرخين وأساتذة الفلكلور من معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية. وكان على رأس تلك الكوكبة من العلماء: بروفيسور يوسف فضل، وبروفيسور محمد المهدي البشرى، ودكتورة انتصار صغيرون الزين.. الخ. وقد كان لي شرف المساهمة في تلك الاحتفائية بورقة بحثية بعنوان (ملامح من المجتمع السوداني في العهد السناري).
وعلى المستوى التجاري والاقتصادي يعتبر سوق الدمازين من الأسواق الرائدة لبيع المحاصيل الزراعية ومحاصيل الصادر مثل: زهرة الشمس والسمسم. وتوجد بالمدينة محطة كهرباء بطاقة اثني عشر كيلو واط. والطريق الرئيسي المؤدي إلى المدينة شمالاً هو الطريق القومي: سنجة ـ الدمازين. وهناك طرق أخرى غرباً وجنوباً تربط أرياف الولاية بالمدينة.
* مشروع التعلية: ماذا يحقق للبلاد والعباد؟
باكتمال مشروع التعلية تترقب الدمازين وكافة الولاية تحولاً تنموياً يؤدي إلى تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين وزيادة الميزان التجاري السوداني، وآية ذلك انه بجانب مساهمة المشروع في ري المساحات الزراعية الموجودة الآن، يمكن كذلك ري حوالي ثلاثة مليون فدان صالحة للزراعة الأمر الذي سيمكن المواطنين من الزراعة في كل المواسم بدلاً عن موسم الخريف فقط. وهذا بدوره يمكنهم من زراعة محاصيل جديدة إضافة إلى القديمة، والى جانب ذلك كله القضاء على العطالة الموسمية بفضل تيسر الزراعة طوال العام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المؤلف

صورتي
عطبرة, نهر النيل, Sudan
مؤرخ وأستاذ مادة التاريخ بالجامعات السودانية