محتويات الموقع

الأربعاء، 9 ديسمبر 2009

السودان لماذا وكيف تأثر بالحرب العالمية الثانية

في الذكرى السبعين لاندلاعها
السودان لماذا وكيف تأثر بالحرب العالمية الثانية


السودان في آتون الحرب:

لم تكد البلاد تستقر من آثار الأزمة الاقتصادية العالمية (1929_1934) إلا وداهمتها الآثار المترتبة على قيام الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 حيث كان السودان احد جبهاتها في مواجهة القوات الايطالية في الحبشة وارتريا. وكان قيام الحرب يعنى أن يتحمل السودان بصفة عامة وشبكة خطوطه الحديدية بصفة خاصة أعباء كثيرة يفرضها علية وضعة كمستعمرة بريطانية من جانب، وطبيعة موقعة في ظهير الشرق الأوسط وميدان المعارك من جانب أخر. والواقع أن اشتراك المستعمرات الايطالية في كل من الحبشة وارتريا في حدود سياسية طويلة مع السودان قد عرضه فعلاً للاشتباك المسلح على طول الحدود وعمل على الزج به في صميم الحرب، لاسيما بعد تدفق قوات كبيرة في الجبهة الشرقية من الجيوش الايطالية المحاربة عبر الحدود السودانية في نقاط عديدة وقيامها باحتلال مدن وقرى في أطراف الأراضي السودانية ومن ثم الاستيلاء علة مدينة كسلا في يوليو 1940م, الأمر الذي مكن الإيطاليين من الاستيلاء على خط "كسلا_هيا" الخط الاحتياطي الذي يربط بين بورتسودان ووادي النيل. وعلى خلفية ذلك تعرضت المدن السودانية -خاصة الحدودية منها- للقصف الجوى, هذا فضلاً عما عانته مدينة بور تسودان من خطر الغواصات الايطالية في البحر الأحمر. هذا وقد استهدفت تلك الغارات رئاسة السكة الحديد بعطبرة والمحطة وكبرى نهر عطبرة ألحقت أضرارا في مباني الرئاسة وبعض ممتلكات المصلحة الأخرى.
وكانت عطبرة نقطة ملتقى السكة الحديد بين الخرطوم وبورتسودان والتي تمتد الخطوط الحديدية منها إلي جهات السودان المختلفة, تلعب أهم الأدوار كحلقة وصل لوصول القوات والإمدادات من والي بورتسودان. كل هذا كان يعنى ضغطاً متواصلاً على السكة الحديد ورئاستها بعطبرة على وجه الخصوص, بل وعلى جميع المرافق بالمدينة حيث وجه المرفق توجيهاً كاملاً لخدمة أغراض الحرب. وعليه فقد ازداد العمل زيادة هائلة بتسيير قطارات (مخاصيص) الجيوش التي لاتنقطع ليلاً ونهاراً. وقد كان عمال المصلحة في حالة عمل مستمر, خاصة قطاع السواقين والعطشجية. والشاهد أن السكة الحديد قد أدت الخدمات التي أنيطت بها بكفاءة واقتدار خلال الحرب ووضعت كل إمكاناتها في خدمت الاحتياطات العسكرية. وآية ذلك أن قطارات التموين والإمدادات والمحطات والأرصفة والورش ظلت جميعها في حركة مستمرة ومتواصلة تؤدى دورها في منتهى الدقة والتناغم بصورة تظل عالقة بذهن كل من قدر له أن يشاهد ذلك. ويمكن الوقوف على حقيقة ذلك الدور إذا علمنا أن المصلحة قامت بترحيل "78.000" من القوات السودانية وقوات الحلفاء, بجانب "5.000" من العربات الأرضية المختلفة فضلاً عن "80.000" طن من العتاد الحربي تم ترحيلها من جهات مختلفة إلي أر تريا وشمال غرب الحبشة. كما قامت السكة الحديد بعمل وصلة بطول (52كلم) من ملوي على السكة حديد كسلا إلي تسني داخل الأراضي الإرترية لخدمة المجهود الحربي. هذا بجانب وصلتي (ربك – جبلين، وحلفا – فرس) لنفس الغرض.
ولنبدأ من البداية فالشاهد أنه منذ عام 1929 لم يشهد السودان امتداداً رئيسياً لخطوطه الحديدية إلى أن انتهت الحرب. غير أن ظروف الحرب والضغط الكبير لحجم الحمولة ومقتضيات توصيل المؤن والأسلحة خلال الحرب دعت إلى امتداد ثلاث وصلات محددة على هذا النحو:
الأولى: من ملوية على السكة حديد كسلا إلى تسني في عام 1941م بطول 52كلم. فقد أدى انتقال مسرح العمليات الحربية إلى مرتفعات (كرن) بالأراضي الارترية إلى إنشاء هذا الخط من ملوية على خط (كسلا ـ القضارف) إلى تسني على خط الاتصال الرئيسي لجيوش الحلفاء الزاحفة على الأراضي الارترية. وكان الغرض من إنشائه كما هو واضح خدمة الحركة التي اتجهت من السودان لتحرير ارتريا والحبشة من الاستعمار الايطالي. جدير بالذكر أن هذا الخط كان الوحيد بين خطوط سكك حديد السودان الذي يعبر خطوطاً دولية. والشاهد انه بعد تجهيز ونقل القوات سقطت مدينة اسمرا وانحسرت عنها القوات الايطالية. هذا وقد ساعدت هذه الوصلة خلال الحربة على انتعاش التجارة وتطورها بين السودان وارتريا وقد استنفد الخط أغراضه بسرعة بعد إتمام الغزو وان ظل يعمل بصورة غير منتظمة من حين لاخر حتى ترك تشغيله وهجر في عام 1966م ومن ثم تعرض القضيب للسرقة وتمت إزالة الجزء المتبقي منه داخل الأراضي السودانية.
الثانية: وصلة ربك ـ جبلين 1942م 45كلم: وهو خط حديدي آخر دعت إليه الضرورة خلال الحرب وذلك لمواجهة احتياجات النقل الحربي المرتقبة ففي عام 1942م أصبح طريق وادي النيل وبفضل ظروف الحرب ولبضعة أشهر طريقا حيوياً هاماً للقوات الحليفة استخدم لتمويل القوات في الشرق الأوسط من شرق إفريقيا عبر لاغوس وغيرها من الموانئ. غير أن الملاحة في النيل الأبيض كان لها مخاطرها. فبالإضافة إلى الأعشاب الماشية توجد عوائق أخرى أهمها (مخاضة أبو زيد) وصخور الزليط ومعنى ذلك أن الظروف التي آدت إلى مد هذا الخط كانت ظروفا طبيعية تتعلق بطبيعة النيل وصلاحيته للملاحة. وعطفاً على ذلك فقد كان الخط ضروريا لمواجهة الحاجة لاستمرار النقل طوال العام. وفي فبراير 1943م افتتح الخط رسميا لخدمة النقل والتجارة حيث لعب دوراً هاماً في نقل اللحوم الحية والحبوب والسلع التموينية إلى مراكز القوات المتحالفة في الشرق الأوسط. وهذا وقد قفل الخط عندما انتهت الحاجة إليه وشرع في تفكيكه في ديسمبر عام 1944م ذلك أن مصلحة سكك حديد السودان كانت ترى فيه خطاً غير ذي جدوى على الصعيد الاقتصادي، فضلا عن انه لا يقوى على منافسة الملاحة النهرية الرخيصة خصوصا وان معظم السلع كبيرة الحجم، ثقيلة الوزن، رخيصة الثمن.
ثالثا: خط حلفا ـ فرس: 1942م 32كلم: أثناء الحرب اشتد الضغط على سكة الخرطوم ـ حلفا كطريق أساسي لنقل وتلبية طلبات القائمين على تنظيم وتموين المجهود الحربي في الشرق الأوسط. غير أن العيب الأساسي والخطير أن تسهيلات النقل بوادي حلفا لم تكن كافية لمواجهة ذلك الضغط المستمر على الحركة. وآية ذلك أن ميناء حلفا لا تعاني من ضيق المكان فحسب، بل أيضا من ضحالة المياه بحيث يتعذر وصول سفن الخدمة النهرية إليها ورسوها على أرصفتها، خاصة في موسم انخفاض المناسيب. والشاهد انه تحت إلحاح الظروف واحتياجات النقل الحربي، شرع في مارس 1942م في مد رأس الخط من حلفا لمسافة 32كلم إلى فرس شمالاً حيث المياه أكثر عمقا وحيث يتسع المكان لبناء محطة ضخمة فيه. وهكذا أصبحت فرس داخل الأراضي السودانية هي المحطة الشمالية لنقل الركاب والبضائع. جدير بالذكر أن وصلة حلفا ـ فرس ظلت تؤدي دورها في الفترة التي تعجز فيها السفن الملاحة النهرية من الوصل إلى وادي حلفا وذلك حتى مطلع الستينات من القرن الماضي حيث أتت عليها المياه التي غمرت منطقة حلفا كنتيجة لتشييد السد العالي بالقرب من أسوان والذي شرع في بنائه في يناير 1960م.
لا جدال في أن ذلك الدور الكبير الذي قامت به سكك حديد السودان إبان عاصفة الحرب، كان على حساب العاملين الذين عانوا الأمرين، من مشقة العمل تارة، ومن ندرة المواد التموينية تارة أخرى، وكانت المشقة ناتجة من أن الوابورات كانت تتحرك بالبخار وتتغذى بالفحم الحجري، لهذا كانت مهمة العطشجي شاقة للغاية. هذا بجانب مفارقة عجيبة هي أن مرتبه لا يتجاوز: المائتين وأربعين قرشا (240قرش) مع بدل سفر (25 مليماً) عن كل ليلة فإذا أضفنا إلى ضعف الأجور والتضخم المالي المريع. والمتمثل في غلاء الأسعار الذي أفرزته الحرب، أدركنا مدة معانة العامل الحياتية والمعيشية آنذاك. ولم تجد معها. بطبيعة الحال علاوة الحرب التي قررتها الحكومة. لا سيما وإنها كانت ضئيلة لا تتجاوز من الأجر الشهري حوالي 14% ونتيجة لذلك حدثت مواجهات متفرقة بين العمال وإدارة المصلحة، منها على سبيل المثال: ما حدث بورشة النجارين في فبراير 1940م والمرمة في 1943م كما قام كبار الفنيين من العمال خريجي المدرسة الصناعية بتسليم مذكرة للمسئولين تتحدث عن ضعف الأجور وصعوبة الحصول على ضروريات الحياة.
** رياح التغيير:
لقد أعطت تجارب الحرب. رغم مرارتها. سكك حديد السودان مزيداً من الثقة في كفاءتها ومقدرتها، كما كانت دافعاً للمضي قدماً في سياسة الاعتماد على النفس في تسيير وانجاز العمل خاصة في مجال الهندسة بشقيها المدني والميكانيكي. فمنذ أعوام عديدة خلت كانت المصلحة قد توقفت عن استخدام الطين (الجالوص) في مبانيها. ولكن النقص الحاد في مواد البناء بسبب ظروف الحرب قد اضطرها إلى العودة مرة أخرى لاستخدامه. هذا بجانب استخدام الحجارة المجلوبة من حلفا في أرضيات المباني بدلاً من الخرسانة. كما استخدم الأجر والقرميد في صنع نوع من الأسقف الشرقية المعقودة بدلاً من الخشب والفولاذ. هذا وقد تمكنت المصلحة أيضا من صناعة حمامات محلية من الخرسانة تم صقلها برقائق الحجر الجيري والاسمنت. وعلى صعيد آخر، فلأول مرة يتم تصنيع كل عربات الركاب وأنواع عديدة من المواعين الناقلة محلياً بالورش بعطبرة، والتي تمكنت أيضا وبجانب ذلك، من إجراء تعديلات في ماكينات القاطرات لاستخدام بذرة القطن كوقود بدلاً من الفحم.
ولم تقتصر مجهودات رئاسة السكة حديد بعطبرة على تلبية احتياجات السودان فحسب، بل أن كثيراً من عربات المصلحة المصنوعة محلياً وصلت إلى خطوط الحلفاء في فلسطين. وقد قامت الورش أيضا بصناعة بعض مستلزمات الحرب والمعدات العسكرية الصغيرة، كإطارات البنادق وناقلات المرضى ومشابك القنابل واحزية الجنود وخزانات المياه ...الخ.
وما من شك أن هذه الصناعات المحلية قد ساعدت الحكومة مساعدة فعالة، إذا وفرت عليها كثيراً من العملات الصعبة التي كان يمكن إنفاقها في شراء تلك المستلزمات. هذا وقد تجاوزت إبداعات المصلحة كما أسلفنا النطاق المحلي. وآية ذلك انه عندما عاد الإمبراطور هيلاسلاسي إلى قصبة ملكه الخامس من مايو عام 1941م عبر جبال الحبشة، كان دخوله مدينة أديس أبابا على إيقاع ثمانية من الطبول النحاسية الضخمة المصنوعة بورش السكة حديد بعطبرة.
وقد كان لإحداث الحرب العالمية الثانية وتطوراتها المثيرة آثار إيجابية عميقة في حياة المواطنين الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية. فمنذ بداية الحرب كما أسلفنا أخضعت موارد البلاد المادية والبشرية لخدمة المجهود الحربي، وعلى أرضها دارت المعارك الطاحنة وعاش المواطنون كل مخاطر تلك الحرب وبقية ظروفها القاسية. وتحمل عمال السكة الحديد على الأخص عبئاً ثقيلاً. كما تسببت الحرب في انفتاح البلاد على العالم الخارجي. فاتسعت المعارك والمساحات الجغرافية في أذهان المواطنين الذين أدمنوا الاستماع إلى نشرات أخبار المعارك ومواقعها ونتائجها، حتى أن مصطلحاتها ومقوماتها دخلت في لغة التفاهم اليومية بين المواطنين، وكان لاشتراك قوة دفاع السودان في تلك الحرب وبلائها الحسن عندما وقفت في وجه جحافل الجيش الغازي وعطلت زحفه، ثم معاركها في الكرمك والقلابات وأغوردات وكرن، وفي ليبيا كل ذلك كان له اثره في رفع اسم السودان عاليا أتلهب شعور المواطنين وأذكى حسهم الوطني. وارتفع وقتها صوت إذاعة ام درمان الوليدة (أنشئت في عام 1940) والتي استطاعت رغم قلة الحيلة وضعف الوسيلة ان تخترق الأجواء وتصل الى قلب أوربا مطالبة الحلفاء بأن ينال السودان نصيبه في ثمرة الانتصار ومن ثم الاعتراف بحق شعب السودان في تقرير مصيره فور انتهاء الحرب. وقد ازعج ذلك المدعو (يونس بحري) في إذاعة ألمانيا فظل يردد (هنالك حشرة تطن في قلب أفريقيا وتقول هنا أم درمان)
وتجلى ذلك الوعي بمجريات الأحداث العالمية في دفع الحركة الوطنية السودانية الحديثة قدماً الى الامام فعندما ازيج ميثاق الأطلسي الذي أصدره كل من زوزفلت رئيس الولايات المتحدة وتشرشل رئيس وزراء بريطانية في 14 أغسطس 1941 والذي يقضي بمنح الشعوب الحكم الذاتي وحق تقرير المصير، نقول انه ما أن ازيع هذا الميثاق حتى سارع مؤتمر الخريجين العام بتقديم مذكرته الشهيرة للحاكم العام وذلك في أبريل 1942م والتي حوت اثنى عشر بنداً متطرفاً عبرت حقيقة تعبيراً صادقا عن ميول ورغبات واماني اهل البلاد. وجاء في صدر تلك المطالب الوطنية ما يلي: إصدار تصريح مشترك في اقرب فرصة ممكنة من الحكومتين الإنجليزية والمصرية بمنح السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير المصير بعد الحرب مباشرة وإحاطة ذلك الحق بضمانات تكفل حرية التعبير عن ذلك الحق بحرية تامة كما تكفل للسودانيين الحق في تكييف الحقوق الطبيعية مع مصر باتفاق خاص بين الشعبين المصري والسوداني. وتجلى ذلك الوعي كذلك في مجال الأدب والفن نذكر من ذلك تمثيلا لا حصراً كلمات الشاعر يوسف مصطفى التي ترنم بها أمير الأغنية الوطنية الفنان حسن خليفة العطبراوي
يا غريب يلا .. يلا لبلدك
لملم عددك .. وسوق معاك ولدك
انتهت مددك
وعلم السودان يكفي لسندك
2
ذكروا تشرشل
يحترم وعده
في الميثاق قالوا
كل زول بلدو
وديل بواقيكم
لس ليه قعدو
ولقد هبت آنذاك رياح التعبير على مدينة العاملين عطبرة المدينة التي تحملت أعباء جسام وتبعات ثقال أثناء الحرب بوصفها قصبة السكة حديد وقلبها النابض هبت إذن رياح التغيير على المدينة، فأزيلت مساكن العشش واستبدلت (بالجالوص) وازدهرت الحياة الاجتماعية وفتحت الأندية ودخلت الكهرباء منازل الكادحين كما عدل الناس عن عاداتهم القديمة، وتضخم بريد المكتبات من الصحف والمجلات والقصص المترجمة، وإقبال العمال على القراءة فالكل يريد رفع رصيده الثقافي وتطورت مقدرات العاملين الفنية والصناعية وتمكنوا كما أسلفنا من صنع كثير من البدائل لأشياء تعزر استيرادها أثناء الحرب وارتفع ثمنها.
وعلى صعيد آخر تعتبر حركة عمال السكة حديد التي اشتد عودها في مدينة عطبرة والتي تمخضت عن تكوين هيئة شئون العمال في عام 1946م كأي تنظيم نقابي عمالي على مستوى البلاد، تعتبر من أهم المؤثرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي شهدها السودان بعيد الحرب العالمية الثانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المؤلف

صورتي
عطبرة, نهر النيل, Sudan
مؤرخ وأستاذ مادة التاريخ بالجامعات السودانية