محتويات الموقع

الأربعاء، 9 ديسمبر 2009

الموهبة التربوية.. طبيعتها وعناصرها

الموهبة التربوية.. طبيعتها وعناصرها
على هامش انعقاد الدورة التدريبية التربوية بجامعة وادي النيل من 2ـ 9 يونيو 2009م


* إن المعرفة في حد ذاتها ليست قوة وإنما القوة في استخدامها، وان التربية التي نقدمها للنشء ليست قصاصاً نفرضه عليه وليست عقاباً على خطيئة أو فساد أصيل لا ندري ما هو! إنما هي الطريق إلى سعادتهم.

* توطئة:
هذه محاولة فكرية متواضعة، أردنا بها تكريس الدهشة واثارة الفضول أكثر من التبشير بقناعات حدية صارمة، لا مجال لها فيما نحسب في علم الحياة كما هو الحال في علوم الجماد وآية ذلك:
• أن الظواهر الإنسانية غير قابلة للقياس بشكل دقيق يتوفر فيه الصدق والثبات كما في علوم الجماد، ذلك لان الإنسان هو الفاحص والمفحوص. هو المقياس والمقاس. في نفس الوقت. أن عقولنا مثلاً غير قادرة على قياس الهام الشاعر أو أحلام العالم أو رؤى الفنان.
• الفروقات الفردية الكثيرة المتنوعة القائمة بين البشر والتي بسببها يصعب تعميم أي حكم أنساني بشكل مطلق فلا مجال هنا لعبارة مثل (كل المعادن تتمدد بالحرارة) كما هو الحال في نواميس العلم.
ويترتب على ذلك أن يكون الافتراض النموذجي في عالم المعرفة المتعلقة بعلوم الحياة، هو صياغة الإنسان الأسئلة، لا الإنسان الأجوبة، الإنسان الدهشة لا الإنسان الغفلة. وحسب بعض الفلاسفة فان الإنسان حيوان ذو دهشة أو حيوان مندهش. أو ليس من أدهش المدهشات ألا يندهش الإنسان؟! أو ليست الحياة نفسها سؤال يقود إلى سؤال. ودهشة تفضي إلى دهشة. وحيرة تتبعها أخرى؟! أنها أشبه بقصة ألف ليلة وليلة. لها بداية وليست لها نهاية.
الموهبة:
أن تصور منهاج عمل تربوي ذي غاية محددة وطرائق حية لا يكفي لإيجاد مربين صالحين، لابد لذلك من تلك المجموعة من المنازع والقابليات المنسقة التي تكون الموهبة التربوية لكن ما هي الموهبة ؟ وماذا يعني مصطلح التربية؟
الموهبة في اللغة: نجد مثلاً أن المجد: موهوب من الفعل وهب وهب العطية أو الشيء المعطى بلا عوض. وفي لسان العرب: من وهب يهب ووهب، أي يعطيه شيئا والشاهد أن المعاجم العربية والانجليزية تتفق على أن الموهبة تعتبر قدرة أو استعداد فطراياً لدى الفرد. أما من الناحية التربوية والاصطلاحية. فهنالك صعوبة في تحديد وتعريف بعض المصطلحات المتعلقة بمفهوم الموهبة: (كالعبقرية، النبوغ، الذكاء). وتبدو كثيرة الشغب ويشوبها الخلط وعدم الوضوح في استخدامها. ويعزى ذلك إلى تعدد مكونات الموهبة وتنوعها ومع ذلك سنورد بعض التعاريف التي تسلط الضوء على هذه الظاهرة.
1. الموهبة قوة فطرية من نمط رفيع كالتي تعزى إلى من يعتبرون أعظم المشتغلين في أي فرع من فروع الفن والتأمل. فهي طاقة فكرية وغير عادية وذات علاقة بالإبداع التخيلي.
2. الموهبة مجموعة من سمات معقدة تؤهل الفرد للانجاز المرتفع المتميز في بعض المهارات والوظائف. فالموهوب هو الفرد الذي يملك استعداداً فطرياً وتصقله البيئة الملائمة.
3. يستخدم اصطلاح الموهبة للدلالة على الأفراد الذين يصلون في أدائهم إلى مستوى مرتفع في أي مجال من المجالات له قيمة. والعلاقة بين الذكاء والموهبة ايجابية، فالذكاء عامل أساسي في تكوين ونمو المواهب جميعاً.
والشاهد أن أصحاب المواهب أناس توافرت لهم ظروف بيئية ساعدت على إنماء ما لديهم من طاقات عقلية، من أهم مظاهرها. على سبيل المثال لا الحصر:
1. المهارات اللغوية (التعبير والطلاقة اللفظية)
2. مرونة التفكير
3. حب الاستطلاع
4. المدى الواسع من المعلومات
5. القدرة على التفكير
6. قدرة مرضية على العمل
غير أن الموهبة لابد لها من رعاية، فهي تخبو وتتلاشى إذا لم تكن الظروف المحيطة بها قادرة على تنميتها. وأهم هذه الظروف: الحرية الفردية والتشجيع. وعلى خلفية ذلك كله نستطيع القول بأن الموهبة هي مجموعة قابليات واستعدادات طبيعية وفطرية وفكرية وخلقية وعاطفية. وان هنالك أسبابا اقتصادية واجتماعية هي التي تساعد على شحذها وتنميتها وبخاصة الأعداد المهني والثقافي.
نخلص من ذلك كله بأن الموهوبين مكونين: احدهما فطري والآخر مكتسب ويكمل بعضهما بعضاً. غير أن بعض غلاة التربويين في تحمسهم للمكون الفطري ذهبوا إلى القول : بأن المعلم الجيد يولد ولا يصنع "A great teacher is born and not made. In this regard he is mach like a singer of a painter of any of ratable performing artiste "
أن الموهبة تمثل حقيقة الشكل الفعال للسلطة الروحية وهي سلطة لا تقوم على التسلط والقهر، وإنما قوامها التضحية والإيثار ونكران الذات والقدوة الحسنة. وهي تنمو وتشتد كما أسلفنا عن طريق الأعداد المهني الثقافي.
التربية:
أن الفكرة التي يمكن أن تحملها عن صفات المربي ودوره مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالفكرة التي تكونها عن التربية. والشاهد أن هنالك تعريفات لهذا المصطلح بقدر ما في المؤسسات التربوية من رؤوس. وهذه الهلامية ناشئة من الخلط بين ألوان وضروب شتى من التربية : (تربية عائلية، تربية نظامية مدرسية، تربية تقليدية، تربية تقدمية، تربية غير نظامية أو عرضية...الخ). هذا فضلاً عن التباين بين الناس في النزوع الفلسفي والرؤى السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
تذكرت وأنا بصدد الوقوف على مفهوم عام التربية. مع الفارق طبعاً. نظام الوصايا والانتداب (Mandate) الذي ابتدعته الدول الاستعمارية الكبرى لا سيما فرنسا وانجلترا. وتبنته عصبة الأمم بعيد الحرب العالمية الأولى (1919)م، حيث قررت تلك الدول فرض وصايتها على بعض دول العالم الضعيفة المهزومة بغرض إعدادها تدريجياً -اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً- للحكم الذاتي خلال فترة محددة ترتفع بعدها تلك الوصايا، فالتربية في معناها العام هي نوع من الوصاية بكل ما تحمله هذه الكلمة من إيحاءات، يفرضها ويقوم بها في العادة جيل تجاه جيل لاحق ليصبح هذا الأخير في نهاية المطاف قادراً بعد تأهيله على التحرر من تلك الوصاية.
والتربية لغة مأخوذة من الفعل ربا يربو بمعنى زاد ونما. يقول الله تعالى : (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله). الروم آية (39) وفي هذا السياق فأنها تعني الزيادة والنمو والتغيير. وهنالك معنى آخر هو: ربى يربي، بمعنى أصلح وساس وتولى أمره. والشاهد أن التربية تعني الزيادة والنمو والقيادة والسياسة وهي كذلك في المصطلح الغربي تعني التوجيه والإرشاد.
أما التربية اصطلاحاً: فتعني كل الجهود المبذولة من جانب المجتمع بمؤسساته المختلفة ذات العلاقة بالتربية، الأسرة، جماعة الأقران، المسجد ودور العبادة عموماً، المدرسة، وسائط الإعلام.. إلخ" والتي تتولى تنشئة الصغار وتمحور حول العمل الإداري الذي يقوم به الراشدون تجاه الناشئة بغية إيصالهم بدورهم إلى مرحلة النضج.
أما التربية المدرسية النظامية التي تحدد بصددها، فتعريفها مرتبط إلى حد كبير بحاجتنا إليها. فالشاهد أن الحيوانات تولد، عدا الإنسان، وهي مكتملة الأجهزة وتستطيع أن تمارس حياتها منذ مولدها. فمثلاً الدودة تولد كاملة لا فرق بينها وبين الكبيرة. وكلما ارتقى الحيوان تعددت مطالبه وتعقدت أجهزته لتواجه وتواكب تلك الحاجات، لهذا تطول مدة طفولته. ولما كان الإنسان أرقامها جميعاً وأجهزته أكثرها تعقيداً وتصرفاته أشدها غموضاً، لهذا لزم طفولته وحاجته المدرسية والتربية المنظمة وفقاً لمراحل نموه المختلفة. (أن الظاهرة الرئيسية التي من أجلها وجدت المدرسة تتمثل في طول طفولة الإنسان وحاجته للرعاية والعناية المستمرة لمدة تقرب من العقدين من الزمان). هذا ولما كانت البراجمانية من أهم الاتجاهات الفلسفية والتربوية في العالم المعاصر، وأكثر فلسفات التربية انتشاراً وتأثيراً في العالم العربي، كان لابد من الوقوف عند مفهومها للتربية، والشاهد أنها تقوم على النظر إلى الطفل على انه كائن حي له قدراته واستعداداته، وان التعليم يكون أفضل إذا اعتمد على العمل وممارسة الخبرة وعلى اهتمام الطفل وبذل الجهد من جانبه لكي يكتسب الخبرات. وهي بذلك تضمن بعض المبادئ التربوية الايجابية مثل: ربط التعليم بالحياة، ملائمة التعليم لاهتمام الطفل وحاجاته، فاعلية المتعلم ونشاطه، التأكيد على الأهمية التربوية للعمل والممارسة. والشاهد أنها تؤكد على الخبرة الذاتية للفرد كوسيلة لمعرفة العالم الخارجي والتعامل معه.
لقد كانت البرجماتية بمثابة ثورة على (التربية المصرفية) والتي تعتبر التلاميذ مجرد مستودعات يقوم المعلم بملئها. فالمعلم هو المودع والمتعلمون هم الإيداع فكان الإيداع في تربية جامدة لا روح فيها ولا نشاط، ترفض الحوار وتحبط الإبداع.
عناصر الموهبة التربوية:
وتتألف من عناصر ثلاثة: محبة النشء، ومحبة المثل الأعلى الذي نتصوره من أجلهم، والرغبة في نقل شعلة ذلك المثل إليهم. أنها باختصار شديد: الحب، الشعور بالقيم، والشعور بالرسالة.
أ-الحب: لا جدال في إننا نتعلم في العادة من أولئك الذين نحبهم. لكن من أين يأتي نداء الحب؟ إنه يأتي من الصغير نفسه. فالشرط الأول ليكون المرء مربياً صالحاً هو محبة النشء والشعور بالحاجة إلى التضحية في سبيل أكثر المخلوقات ضعفاً وأكثرها انفتاحاً على المؤثرات جميعاً وأشدها ثقة بقوة الراشد وصلاحه.
ولكي نعطف على الناشئ ونحبه، بالرغم مما قد يكون به من عيوب، يتعين علينا أن نفهمه، ولكي نفهمه علينا أن نعرفه. والشاهد أن الحب يتطلب الفهم، والفهم يتطلب المعرفة، فعندما نقول مثلاً: علمت أحمد اللغة العربية. فإن الفعل علم يتعدى لمفعولين. ومربط الفرس هنا المفعول الأول (أحمد) فلكي نعلمه يجب أن نفهمه ولكي نفهمه علينا أن نعرفه.
ومعرفة الناشئ تتضمن أشياء كثيرة أهمها:
1. معرفة ما يروقه وما لا يروقه، ما يحب وما يكره. وعلى الجملة معرفة دوافعه وميوله وحاجته وما يترتب على إحباطها وكبتها من أضرار.
2. معرفة منطقه الخاص وطريقة تفكيره الخاصة ونظرته إلينا. وهذه المعرفة يطلق عليها (الاستشفاف الوجداني) يحكى أن معلماً أخذ يصف لتلاميذه من الأطفال ما بالجنة من فواكه وأنهار وعسل ولبن. وبعد أن فرغ من ذلك سأله أحدهم: في الجنة بيخلونا نلعب؟!. أن مشكلتنا ككبار إننا ننسى أحياناً إننا كنا يوماً ما صغاراً.
أما مبررات ذلك الحب وبواعثه فتتمثل في الأتي:
عدا أن عاطفة الحب هي من أهم علامات الصحة النفسية، فإن محبة النشء تتأتى من إيمان المربي العميق بمستقبلهم ومستقبل المجتمع الذي يحيا فيه، خاصة وان الشباب هم ركائز ذلك المستقبل وصناعته، بحكم كونهم يمثلون إرادة التغيير في مقابل إرادة الثبات لدى الكبار ولعل هذا هو الذي يعلل لظاهرة صراع الأجيال.
كما أن حاجة الشباب (للتربية المُحبة) راجعة إلى كثرة المشاكل التي تصاحب هذه المرحلة من العمر والتي تتميز عموماً ما يعرف (بتوازن المراهقة) حيث يعاني الشباب من القلق على المستقبل، فضلاً عن الصراع النفسي المتولد من تأثير الغرائز والصراع بين الأنا العليا (الضمير) والأنا السفلى (الغرائز) بجانب ظاهرة أحلام اليقظة التي تزداد حدتها بسبب الفجوة الكبيرة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين ما تراه العين وما تطاله اليد. (فالعين بصيرة إلا الايد قصيرة).
كما أن بعض المشاكل ناجمة أحياناً من الفهم الخاطئ لظاهرة المراهقة، وآية ذلك أن البعض يعتبرها حكماً أخلاقيا، بينما هي حقيقة الأمر مصطلح علمي لمرحلة من العمر تمتد ما بين 12ـ 20 عاماً تنقص أو تزيد لعامين من حالة إلى أخرى. فهي إذن مجرد جسر أو قنطرة بين مرحلة الطفولة المتأخرة والرجولة عن الرجل أو الأنوثة عند المرأة. ولا ننسى كذلك أن الشباب هم أكثر شرائح المجامع طاقة ونشاطاً بحيث يطلق عليهم البعض (الكتلة الحرجة) وهي كتلة المادة المشعة اللازمة لانطلاق التفاعل النووي، أما أن تعطي طاقة سليمة أو تنفجر مثل القنابل النووية فتأتي على الأخضر واليابس.
وتفترض محبة النشء احترام شخصية المتعلم، ذلك لان هذا الاحترام هو بمثابة (ألف ياء) الديمقراطية. أن تلك المحبة تعني أول ما تعني الرأفة المخلصة للناشئ نفسه وللقيمة الإنسانية التي يحملها ويمثلها، ولكل ما فيه من لطف وطراوة وحبور. وتلك كلها عواطف لا تأتي غلابا ولا تكتسب اكتساباً، شأنها في ذلك شأن سائر تجليات الشفقة والرحمة، فإما أن نحب وإما لا نحب. والمرء ذو القلب المتحجر لن يكون مربياً صالحاً أياً كانت مزاياه الأخرى. وقديماً نسب لأستاذ الأجيال أحمد الطيب القول النافذ : "إن الذين لا يحنون على الصغار ولا يشفقون عليهم ينبغي ألا يتصدوا لتربيتهم"، ففي الحياة متسع للعابسين والمبتهجين، وتتجلى هذه التربية المتدثرة بالحب في أسمى معانيها في الخطاب القرآني (لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فأعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر ). آل عمران.
والشاهد أن من كانت عواطفه غيرية، حسب حساب الآخرين في كل قول وكل عمل وتحامى الإساءة إليهم، وسعى نحو صبرهم، وجهد في إرشادهم ونصحهم، وأبى أن يعتدي على حرياتهم وكرامتهم ومن ثم يرتقي به إحساسه هذا فينسي مع الرياضة والتجارب نفسه ويكرس حياته كلها لمجتمعه ولامته بل وللإنسانية جمعاء والحقيقة انه لما كان الإنسان فرداً في جماعة، جزءاً من كل، حلقة في سلسلة، كان لزاماً عليه حين يهم بتحسين حظه في الحياة، أن يعمل على تحسين حظوظ الآخرين، ذلك لأن الخط يدور حتماً على محور الأخلاق.
والحب عاطفة مركبة وليست بسيطة وآية ذلك أنها تشمل على جملة من المعاني والقيم، اخصها التسامح والاستعداد لقبول الأخر واستيعابه بكل نقائصه ومزاياه والتسامح عملية عقلية ونفسية باهظة ومعقدة لا يستطيع تحملها والالتصاق بها إلا الإنسان الناظر بكل العيون وفي كل الاتجاهات، المتألم بكل الأعصاب على كل الآلام، المجتح بكل العقول على كل الأوهام، المفسر لكل الأحداث بكل الاحتمالات . أن التسامح في حقيقته هو بحث عن أسباب الحب والاعتذار عن الآخرين. الاعتذار عن ضعفهم وعن هفواتهم وأخطائهم. أنه بحث عن أسباب الرحمة والعدل.
إن الذي لا يرى إلا نفسه، ولا يرى الآخرين أو الأشياء الأخرى، ولا يرى الشمس والقمر والنجوم لأنه مشغول برؤية نفسه واستعراض فضائلها، ليس أسوأ أو اقل ذكاءً منك حين تستيقن أن آراءك وحدها الصحيحة وان آراء الآخرين هي الباطلة. يروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه أمام مدرسة الرأي قوله: ما جاء عن الرسول (ص) على الرأس يكون وما جاء عن الصحابة اخترنا منه. وما سوى ذلك فهم رجال ونحن رجال. وكان شعار الإمام الشافعي رضي الله عنه اجتهدنا صواب يحتمل الخطأ واجتهاد خلافنا خطأ يحتمل الصواب. ويحكى أن الخليفة المنصور طلب من إمام دار الهجرة وزعيم مدرسة الحديث مالك بن انس رضي الله عنه تأليف كتاب سهل الفهم يلزم الناس به فقال له الإمام: أن أصحاب رسول الله (ص) سمعوا منه ما سمعوا وتفرقوا في الأمصار وكل حدث بما سمع. فهل كان الإمام مالك وهو يعارض الخليفة يعلم انه سيكون أول من منع إجبار الناس على تبني رأي واحد وطريقة واحدة؟ .
والشاهد أن اختلافنا في بصمات أصابعنا ووزن أجسامنا ومقياس أبعادها وفي قوة الرؤية والسمع وضعفهما لا يعني أن نتعادى ونتقاتل، وكذلك اختلافنا في العقول والظروف التاريخية. وآية ذلك أن الناس خلقوا مختلفين عقلا وشكلا ولابد من استيعابهم شريطة أن يستوعبوا هو الآخرين.
ب - الشعور بالقيم: وإذا كانت نقطة الانطلاق في الموهبة التربوية (محبة النشء) فمحط الرحال فيها هو الشعور بالقيم. فالموهبة التربوية تمتد بينهما أن غرض التربية أن تجعل النشء يشاركون شيئا بعد شيء في جملة القيم التي يتكون منها في المرحلة الأولى. طراز معيشة الجماعة التي يحيون بينها وفي المرحلة الثانية. تراثها القومي. وفي المرحلة الثالثة. الخير المشترك للحضارة الإنسانية لهذا لزام على المربي أن يؤمن بهذه القيم إيمانا كاملاً لزام عليه أن يؤمن بالروح الاجتماعية ولزام عليه أن يؤمن بالعلم وبقيمة الوعي العارف بجملة الحقائق التي يتكون منها. ولزام عليه أن يؤمن بقيمة الوعي وتطوره. ولزام عليه أن يؤمن بالجمال والحب وبقيمة الوعي وتطوره ولزام عليه أن يؤمن بالجمال والحب وبقيمة الينابيع العليا للحبور والغبطة. وبدون هذه كله يمكن أن يقوم ترويض أو إعداد فني أو تلبيد آلي للكائنات، لكن لن تكون هناك أبداً تربية حقه تعني بلوغ الكائن مصاف قيم الروح.
ج- الشعور بالرسالة: وبين محبة النشء والشعور بالقيم ، يقوم إدراك معنى الرسالة التي تقع على عاتق المربي ووعيه بالمسؤولية التي يتحملها تجاه النشء وتجاه المجتمع وتجاه الإنسانية التي تطالب به عضواً من أعضائها وقد لا يدرك في البداية تعقد هذه المسألة وصعوبتها، ولكن لابد أن يتمحور نبلها وجلالها. وإنها لمهمة ثقيلة . مهمة تربية النشء وكسب ثقته. أنها من هذه الزاوية أمانة بكل ما تحمله هذه الكلمة من إيحاءات تجسدت وتكرست في وعي كثير من شعرائنا من المعلمين. نكتفي هنا بهذه الأبيات النافذة للشاعر عبد الله الشيخ البشير:
تخذ الحقيقة في الحياة مراما شغفاً بها وسعى بها مقداما
غيران يهنى بالعقول مكرساً سهران يغشاه المنام لماما
حمل الأمانة وهي عبء فادح وهفا لها وبنى لها وأقاما
والشاهد أن المربي لا بد أن يشعر شعوراً عميقاً بأن مصير الإنسان ينبثق من التربية التي يتلقاها، بل ويشعر أن مستقبل أي شعب هو بين يديه. والى جانب الخلاص الفردي الشخصي للأفراد، يتوقف على أدائه التربوي الخلاص المشترك للأمة بأسرها. وهذا الشعور بالرسالة يمنح العمل التربوي طابعاً من التجرد الكامل، فقليل من الناس في المجتمع لا يعلمون من أجل المنافع الشخصية التي يجنونها من عملهم. أما المربي فعليه أن يبدأ بنسيان ذاته، ولا تغدو السلطة مرادفة للتضحية والإيثار ونكران الذات يرى أي إنسان كما تغدو لديه .
فكل متاعبه وكل همومه سوف يكون محورها النشء وهو يتعلق بمهنته بسبب ما تحدثه لهؤلاء من وعي ورضا وسعادة. على هذا النحو الذي صورته هذه الأبيات للشاعر محمد محمد علي:
يا نفس أمرحي وميسي معلم الأجيال كالقديس
ثوابه من كرمه المغروس في روضة العقول والنفوس
وهنا تمتزج أنبل المشاعر الاجتماعية لمهمته اليومية، فالحب الذي يحمله لوطنه، والعاطفة التي يحملها للطبقات الفقيرة المحرومة في الأمة، والشعور بالعدالة وبالإصلاحات اللازمة من أجلها، كلها دوافع تسهم في أن ترفع في نظره كرامة مهنته وسموها.
إن التربية التي نقدمها للنشء هي في جوهرها رسالة وليست قصاصاً نفرضه عليهم، وليست عقاباً على خطيئة أو فساد أصيل لا ندري ما هو؟ أنها الطريق إلى سعادتهم. ونتذكر دائماً أن المعرفة في حد ذاتها ليست قوة وإنما القوة في استخدامها.
ختاماً: نقول أن المشكلة في التربية هي إننا نتعامل دوماً مع متغيرات لا مع ثوابت، وآية ذلك أن طرحنا هذا يأتي في وقت فقدت فيه السلطة التقليدية الأسرية والمدرسية والمجتمعية كثيراً من مرجعيتها، حيث لم يعد الكبار يشكلون مرجعية فعلية للجيل الصاعد. على الصعيد المعرفي خاصة فالجيل الصاعد يعرف أكثر من الكبار في مجال التعامل مع التقنيات المعلومات وقواعدها، بل هو يعيش بها ولها أحياناً لدرجة أصبح معها هو المرجع للكبار حين تستعصي عليهم أسرار عملياتها التقلبية، والشاهد أن الجيل الجديد بصدد استبدال مرجعية الشبكة (W W W). بمرجعية الكبار حيث أصبح يستغنى عنها إلى حد كبير، ويمت بشكل كبير إلى أبيه (الدوت كوم) البديلة. وهنا تبرز ملامح أزمة في العلاقة مع الكبار حيث تفتقد سلطتهم مشروعيتها بعد أن فقدت مرجعيتها إلا أن هؤلاء الكبار مازالوا يتحكمون بزمام مصير الشباب على المستوى الواقع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المؤلف

صورتي
عطبرة, نهر النيل, Sudan
مؤرخ وأستاذ مادة التاريخ بالجامعات السودانية