محتويات الموقع

الخميس، 10 ديسمبر 2009

بروفايل لأفندي من جيل اليقظة والاستقلال.. أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه

بروفايل لأفندي من جيل اليقظة والاستقلال
أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه: الأب الشرعي لنظام التعليم الحديث في السودان (1901 ـ 1996)م

فاتحة:
لم يوطن السودانيون -على حد تعبير الأديب الراحل الطيب صالح- أنفسهم بعد على أن يروا واقعهم مصوراً في مرآة التاريخ. وربما يفسر ذلك أن عدداً من الرجال الذين أسهموا مساهمات عظيمة في بناء المجتمع كلهم رحلوا دون أن يتركوا سجلاً لتجاربهم، بل حملوها معهم إلى مراقدهم، فخسر الناس بذلك خسارة لا تعوض. إلا أن هذه الفرضية لا تنطبق على أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه، لأنه بفضل حسه التوثيقي -حسب البروفيسور أحمد أبو شوك- استطاع أن يدون شطراً من تاريخ حياته السياسية في كتابه الموسوم بـ : (السودان للسودانيين) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1955م في وقت كان السودان يمر بمرحلة حرجة في تاريخ نضاله السياسي، وبتأرجح تقرير مصيره بين خيار الاستقلال التام وخيار وحدة وادي النيل. وقد استقام ميسم هذه السيرة بالجهد الذي بذلته ابنته الدكتورة: فدوى عبد الرحمن علي طه في كتابها الموسوم بـ : (أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه 1901 ـ 1969م) بين التعليم والسياسة واربجي، والذي صدر عن مطابع دار عزة للنشر والتوزيع بالخرطوم في عام 2003م.
السيرة والمسيرة:
لقد كان المرحوم من أبناء جيل اليقظة الذين نشأوا في كنف الاستعمار، وتعلموا في مدارسه وكلياته، وتدربوا في مؤسساته المهنية، ثم أصبحوا بعد ذلك يمثلون طبقة الأفندية التي حملت لواء النضال ضد المستعمر، وقامت بسودنة الوظائف المهنية والسياسية بعد الاستقلال.
ولد الأفندي عبد الرحمن علي طه في لحظة كانت حاسمة من تاريخ السودان، شهدت نهاية الدولة المهدية وقيام الحكم الثنائي. وكان ميلاده في عام 1901م بأربجي التي تقع على بعد سبعة كيلو مترات جنوب مدينة الحصاحيصا لأب يجمع نسبه بين قبيلة الصواردة المحس والجعليين المسيكتاب، ولأم تنتمي إلى فرع الجعليين الميرفاب. وهكذا ولد أفندينا في كنف جيل الهزيمة كما يسميه الدبلوماسي الشاعر محمد المكي إبراهيم. وكغيره من اضرابه آنئذٍ تلقى مبادئ القراءة والكتابة بالخلوة وحفظ نذراً من القرآن الكريم. ومنها انتقل إلى مدرسة المسلمية الأولية، ثم أكمل تعليمه الأولي بمدرسة رفاعة. ولتميزه الأكاديمي انتقل إلى كلية غردون بالخرطوم حيث درس الوسطى والثانوي بقسم المعلمين. وقد لمع اسمه في المناشط الثقافية والعمل المسرحي والمحاضرات والندوات التي كانت تعقدها الكلية لصقل مواهب الطلاب النجب.
وفور تخرجه في كلية غردون عام 1922م التحق بمصلحة المعارف حيث عين معلماً للغة الانجليزية بمدرسة أم درمان الأميرية. وعاصر في تلك الفترة الزعيم إسماعيل الأزهري الذي كان معلماً للرياضيات. ومن جملة تلاميذه بالأميرية: أمين التوم والتيجاني عامر. وفي عام 1927م انتقل مترقياً إلى كلية غردون التي كانت تعاني من نقص في الأساتذة بعد ثورة عام 1924م، فقد أبعد المصريون، وانتهت فترة عمل كثير من المدرسين السودانيين، ومن ضمن تلاميذه بالكلية آنذاك: الأستاذ سر الختم الخليفة رئيس أول حكومة بعد ثورة أكتوبر 1964م. انتقل بعدها في عام 1953م إلى معهد التربية ببخت الرضا. أي بعد عام واحد من تأسيسه.
في روضة المعارف: (1935 ـ 1948)م.
لقد اعتبرت التقارير الرسمية نقل الأستاذ المرموق إلى بخت الرضا بالدويم خسارة كبيرة لكلية غردون لأنه على صلة طيبة بطلاب قسم المعلمين، هذا فضلاً عن كونه من أعضاء هيئة التدريس الذين تميزوا بعطائهم الأكاديمي الثر، وعملهم المفيد في ترقية الحركة الكشفية في الخرطوم وأم درمان.
ومنذ التحاقه بالمعهد ارتبط اسمه بتدريب المعلمين، وإعداد المناهج الدراسية، والقيام بالتفتيش الفني للتعليم، وتقويم مسار التعليم العام بالبلاد. وتقديراً لعطائه المتفرد في هذا الشأن تمت ترقيته إلى نائب عميد بخت الرضا.
ويتحدث عنه عميد المعهد آنذاك الأستاذ: ف. ل قريفث Griffth في سياق وصفه لأعضاء هيئة التدريس بالمعهد فيقول: (ولعل نائب العميد كان أبرزهم. رجلاً دقيق البنية، معتدل القامة، يتحدث في ثقة وشجاعة تتخللها الدعابة، كما تتخللها الأسئلة التي كان يصوبها نحو شخصيات معروفة من مستمعيه. كان بوجدانه ينتمي إلى المدرسة القديمة، ويتمسك بالمبادئ الدينية والأخلاق في وقت كانت فيه الأخلاق قد تداعت أو كادت. وكان على استعداد لتأديب أبنائه في وقت تخلى كثير من الآباء عن هذه المهمة. وعلى هذا الأساس المتين من الأخلاق أخذ يستوعب الأفكار الجديدة بعد أن يفحصها ويتأملها جيداً، ويفكر في تطبيقات جديدة لها بحيث تصبح وكأنها أفكاره الشخصية. وكان على قدر كبير من الاهتمام بالعلاقات الشخصية والرأي العام. وهذه من خصائص الأشخاص الذين ينشئون في مجتمع يعتمد على العلاقات الشخصية أكثر من اعتماد المجتمع الحديث عليها. هذا وقد أكسبه، والحديث لا يزال لمستر قريفث، إخلاصه ووطنيته وإحساسه بالعلاقات الشخصية نفوذاً فريداً بين قدامى الوطنين من المعلمين. أما صغار المعلمين فقد كان في واقع الأمر الشخص الوحيد تقريباً الذي يهابونه ويبجلونه في نفس الوقت. أما بالنسبة لنا نحن الأجانب، فقد كان المرجع في أسلوب المعاملات اليومية، كما كان القدوة في الإخلاص للعمل الذي نذرنا أنفسنا له.
عطاء تربوي بلا حدود:
ويتضح من حديث المستر قريفث، الدور المحوري الذي لعبه الأفندي أبو عوف -كما يسميه أقرانه في إدارة معهد بخت الرضا- في ترتيب شبكة العلاقات الأكاديمية والاجتماعية التي كانت تقوم على نسيج خلاف يجمع بين القديم والحديث ويؤاخي بين إدارة المعهد الأجنبية وأعضاء هيئة التدريس الوطنين، وتوثق عرى الترابط بين طلاب المعهد الذين كانوا يشكلون ألوان طيف المجتمع السوداني الذاخر بالتباين العرقي والاجتماعي والثقافي. وشمل مجال إسهامه التربوي حقولاً تعليمية شتى، نذكر منها على سبيل المثال: الاهتمام بتعليم الكبار، وتعليم البنات، والتدبير المنزلي، والفلاحة البستانية، والمناشط الرياضية، ومكتبة النشر، ومجلة الصبيان.
كل هذه القيم المعرفية كانت تصب في أوعية الإعداد الوطني وربط الطلاب بتقاليد المجتمع السوداني وذلك من خلال جملة إصدارات للأستاذ عبد الرحمن علي طه: أشهرها كتابه الموسوم بـ : (سبل كسب العيش في السودان) الذي نظمه في شكل زيارات علمية لمناطق السودان المختلفة للتعرف على دقائق بيئاتها المحلية وأنشطتها البشرية، وبذلك استطاع (أبو عوف) أن يجعل من الجغرافيا أدباً ينشد داخل قاعات الدرس وخارجها كما جاء في قصيدته المشهورة:
في القلولد التقيت بالصديـق أنعم به من فاضل صديــق
خرجت أمشي معه في الساقية ويالها من ذكريات باقيـــة
فكم أكلت معه الكابيـــدة وكم سمعت (أورو ألـــودا )

مازلت في رحلاتي السعيدة حتى وصلت يامبيو البعيــدة
قدم لي منقو طعام البفـرة وهو لذيذ كطعام الكســــرة

وآخر الرحلات كانت عطبرة حيث ركبت من هناك القاطرة
سرت بها في سفر سعيــد وكان سائقي عبد الحميـــد
أعجبت من تنفيذه الأوامـر بـــــدقة ليسلم المسافر

كل له في عيشه طريقــة ما كنت عنها أعرف الحقيقة
فأبشر إذن يا وطني المفدى بالسعي مني كي تنال المجدا
هكذا كان أبو عوف صاحب دور مبدع في تطوير التعليم العام بالسودان إلى أن ودع بخت الرضا عام 1948م مرتحلاً إلى الخرطوم حيث شغل منصب أول وزير سوداني للمعارف قبيل الاستقلال. ولذا فقد وصفه الأستاذ: السر قدور: بالأب الشرعي لنظام التعليم الحديث في السودان. لأنه من وجهة نظره كان رائد التأصيل التعليمي وإحلال المناهج المرتبطة بحياة أبناء السودان وتاريخهم وأساليب نشاطاتهم الحياتية والمعيشية، مكان المناهج الدراسية الوافدة التي وضعتها الإدارة الاستعمارية مع بداية الخطوات الأولى للتعليم الحديث في السودان. وهكذا انتقل أبو عوف من دائرة العمل المهني التنفيذي إلى دائرة صناعة السياسة التعليمية العامة بالبلاد.
السودان للسودانيين:
كان الأستاذ أبو عوف من أكثر الناس تمسكاً وإيماناً باستقلال السودان، وقد اشترك في الوفود الأولى للمفاوضات التي دارت بين مصر وانجلترا بخصوص الاستقلال، المبدأ الذي كان لا يحيد عنه. وكان بذلك موضع ثقة من السيد عبد الرحمن المهدي راعي الحركة الاستقلالية. ولذا فقد كان مستشاره الأول، خاصة وقد تميز بالإخلاص للسيد، ولدعوة الاستقلال التي وضع من أجل تسويقها كتابه الموسوم بـ : السودان للسودانيين، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1955م، في وقت كان السودان يمر بمرحلة مخاض حرجة في تاريخ نضاله السياسي، وبتأرجح تقرير مصيره بين خيار الاستقلال التام، وخيار وحدة وادي النيل.
العودة إلى الجذور:
بقيام انقلاب 17 نوفمبر 1958م وحلول النظام العسكري، ضيفاًً ثقيلاً على أهل السودان، اعتزل أبو عوف العمل السياسي دون أن يعتزل العمل العام، وعاد مرة أخرى إلى قريته أربجي بالقرب من الحصاحيصا حيث نذر نفسه لإصلاحها وقضاء حوائج أهلها وغيرهم من أبناء المنطقة. وقد غادر العاصمة بلا رجعة خاصة وأنه لم يكن يملك فيها شبراً من الأرض أو عقاراً.
ويعلق الأستاذ حسن نجيلة على هذه النقلة النوعية قائلاً: (ولما صار العمل السياسي الحزبي تطاحناً حول الاستوزار والحكم عف عنه أبو عوف واحتقره، وعاد إلى وطنه الصغير في قريته الوادعة، لا ينعم بالهدوء كرجال المعاشات، بل يبدأ عملاً جليلاً مضنياً، فخطط القرية تخطيطاً جديداً وغرس في أهلها حب التعاون، فبنو وعمروا وأنشئوا المدارس والشفخانات والمساجد، وأسسوا من ثم مجتمعاً راقياً أعجب به الدكتور: التجاني الماحي واصفاً إياه: بأنه المدينة الفاضلة التي كان يحلم بها الفيلسوف: أبو نصر الفارابي.
وبعد هذا العطاء الدافق، والجهد المضني المتواصل، توفى أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه، وكانت وفاته في صبيحة يوم الأحد الموافق الثاني من نوفمبر عام 1969م بمستشفى الحصاحيصا. وقد نعاه عميد الصحفيين بشير محمد سعيد قائلاً : (رُوع السودان أمس الأحد بوفاة رجل من أبطاله الميامين، وقائداً من قادته المحنكين، خالد الذكر عبد الرحمن علي طه رائد نهضة السودان التعليمية الحديثة وأحد قادة الحركة الوطنية وزعماء الاستقلال. وقد اختاره الله إلى جواره فجر أمس الأحد في مستشفى الحصاحيصا اثر علة طارئة، فنقل جثمانه الطاهر إلى قرية أربجي التي أحبها بكل ما يملك من حب لذويه وخدمها بكل جهده وطاقته).
هذا ويعتبر كتاب ابنته الأستاذ الدكتورة: فدوى الموسوم بـ : أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه (1901ـ 1969)م بين التعليم والسياسة وأربجي. والذي اعتمدنا عليه في كتابة هذا المقال، يعتبر فتحاً جديداً في كتابة سير الأعلام في السودان، وآية ذلك أن مفرداته قد أسست على كم هائل من الوثائق والمعلومات التي حصلت عليها المؤلفة من مختلف المصادر وكذلك من أرشيف حكومة السودان وغيرها، ومن ثم أصبح الكتاب مرجعاً في نواحي متعددة في تاريخ السودان التعليمي والسياسي والاجتماعي. ومن هذه الزاوية يمكننا القول بأن سيرة أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه، على حد تعبير بروفيسور أحمد أبو شوك، هي إضافة مهمة بمكتبة الدراسات السودانية، ومرجع هام في كثير من القضايا المرتبطة بتاريخ التعليم والحركة الوطنية في السودان.
وفي سياق متصل، تجسد مشروع العودة إلى الجذور (في أربجي) قيمة من قيم الوفاء الصادق التي تجلت في سلوكيات صاحب السيرة الذي أعتزل العمل السياسي على المستوى القومي، ولكنه ظل على قناعة تامة بضرورة العمل العام في فضاء قرية صغيرة من قرى الجزيرة، كانت تمثل له ذكريات الطفولة. مراتع الصبا وأيامها العابثة، وتراث نفر طيبين خرج من بين أصلابهم وترائبهم، وأضحى يشعر بأن لهم في عنقه يد سلفت ودين مستحق.
وعند هذا المنعطف تؤكد سيرة الأستاذ عبد الرحمن علي طه أن العمل السياسي العام ليس الحقل الأوحد للعطاء والإبداع، بل أنها يمكن أن يتجسدا في فكر الإنسان وتطلعاته نحو الأفضل في أي حقل من حقول الحياة الإنسانية التي تهدف إلى تحقيق الفضيلة على أديم الأرض.
ختاماً ستظل أبداً سير العظماء معيناً لا ينضب للقدوة الحسنة ونماذج فريدة للتضحية والإيثار ونكران الذات. وأكثر من هذا سيظل استشهادهم جسراً تعبره الإنسانية إلى ذات أكثر كمالاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المؤلف

صورتي
عطبرة, نهر النيل, Sudan
مؤرخ وأستاذ مادة التاريخ بالجامعات السودانية