محتويات الموقع

الأربعاء، 9 ديسمبر 2009

حلفاية الملوك.. حاضرة العبدلاب وإحدى أهم مراكز الثقافة السودانية قديماً وحديثاً

حلفاية الملوك.. حاضرة العبدلاب وإحدى أهم مراكز الثقافة السودانية قديماً وحديثاً
عبقرية الزمان والمكان جعلت منها نموذجاً ورمزاً للتمازج القومي في السودان.
شهادة الميلاد:
تقع حلفاية الملوك على بعد حوالي السبعة أميال شمال الخرطوم بحري وكانت تعرف بالحلفاية. ولما انتقل إليها العبدلاب من قرى في عام 1747م واتخذوها عاصمة لهم أضيفت إلى ملوكهم فأصبح إسمها الشائع حلفاية الملوك. جدير بالذكر أن مملكة سنار كانت مملكة ثنائية بعاصمتين: سنار عاصمة للفونج في الجنوب، وقري عاصمة للعبدلاب في الشمال. وتعزى أسباب ذلك الانتقال إلى تمركز قوة العبدلاب بمرور الزمن في الحلفايا، خاصة وقد تميزت أراضيها بالخصوبة وصلاحيتها للزراعة، إضافة إلى سعتها بالمقارنة مع قري المحدودة السعة والخصوبة، وقد توافق هذا التحول مع تزايد ضغط الشايقية على مشيخة العبدلاب من الشمال ونزوح مجموعات كبيرة منهم، فرساناً ورعاة، إلى هذا الإقليم وإقليم شندي. وقد ظهر أثر ذلك في الحلفايا نفسها إذ برزت بوادر النفوذ الشايقي فيها.
وقد اختلفت الآراء في معنى الحلفايا. والراجح من تلك الآراء يرجعها إلى النبات المعروف بالحلفا. وآية ذلك أن العرب درجوا على تسمية بعض ما يستقرون به من مناطق باسم النباتات التي كانت تغطي بعض هذه المناطق مثل: الطرفاية، الطندبة وما إليها. ولكثرة نبات الحلفا على ضفاف النيل كثرت التسمية به، مثلما هو الحال مع حلفا في أقصى شمال البلاد، والحلفا قرب بربر. ويذكر أن نبات الحلفا كان واسع الانتشار في هذه المنطقة فلا عجب أن سمى به المكان. وقد اختلط لفظ الحلفا بالمقطع المجهول الهوية (آية) الذي تمتاز به اللهجة العربية السودانية. ويدل في معناه العام على التصغير أو الإفراد أو التنكير أو جميعها.
وليس في المصادر المكتوبة أو المسموعة ما يحدد على وجه التقويم كيف برزت الحلفايا إلى الوجود. وشاهد الحال يوحى بأن منطقة الحلفاية قديمة النشأة لقربها من مركز السلطة في مملكة علوة التي كانت عاصمتها سوبا، ولغناها ولخصوبة أراضيها الواقعة على النيل، ولوقوعها على الطريق التجاري المعروف بـ (درب الجمل) بين الدامر والحلفاية.
الحلفاية خلال العصور:
يجدر بنا أن نشير إلى أن الحلفاية لم تكن تعنى في كل الأزمان مدينة الحلفاية بحدودها المعروفة لدينا الآن بل كانت تشمل في بعض الأزمان منطقة واسعة تضم ما حولها. وتشمل فيما تشمل منطقة الخرطوم بحري . إذ أن اسم منطقة الخرطوم بحري لم ينتشر إلا مؤخراً، وكثيراً ما كان يشار إلى الخرطوم بحري بالحلفاية واستمر ذلك إلى عهد قريب كما يشير إلى ذلك اسم السينما المسماء بالحلفاية بحي الأملاك ببحري.
وفي العهد التركي (1821 ـ 1885)م تقلصت أهمية الحلفاية بزوال مشيخة العبدلاب. ورغم ذلك فقد ظلت المدينة بحكم موقعها وميزاتها المتعددة ذات اثر على الخطط الإدارية لمختلف العهود التي تعاودت على المنطقة ففي عهد الأتراك هذا ظلت عاصمة للمناطق التي تقع شمال النيل الأزرق التي كانت خاضعة لمشيخة العبدلاب. ورغم أن الأتراك انشأوا عاصمتهم في الخرطوم، فإن الحلفاية ظلت عاصمة لإقليم كبير يضم الحلفاية والنيل الأبيض.
وفي عهد المهدية (1885 ـ 1889)م قسمت البلاد إلى ثماني ولايات وأصبحت الحلفاية بمقتضاها تقع في ولاية شرق النيل الكبير التي تمتد من النيل الأزرق حتى حجر العسل شمالاً، ولم تعد تابعة لولاية الخرطوم.
وفي عهد الحكم الثنائي (1899 ـ 1956)م سويت حدود الحلفاية عام 1902م لتمتد جنوباً حتى مزرعة جامعة الخرطوم بشمبات ومدرسة الربعة حالياً، ومن السكة الحديد وحتى النهر. ويفهم من روايات أهل الحلفاية أن الحكومة الانجليزية، وقد وضعت الخطة لاتخاذ الحلفاية مركزاً إداريا في البداية، ثم عدلت عن ذلك حين لم يتحمس أهل الحلفاية للخطة. فنقل المركز ومحطة السكة الحديد للخرطوم بحري. ومن الواضح أن توسع الخرطوم بحري وتطورها كان على حساب الحلفاية إلى تقلصت مع الزمن إلى حدودها الحالية.
الخريطة البشرية:
تقع الحلفاية في قلب منطقة التمازج الكبير بين البشر وبين الثقافات في منطقة النيل الأوسط التي تضم معظم الحضارات التي مرت على السودان من قبل وآية ذلك أن منطقة مروي (البجراوية) تقع إلى شمالها، بينما تقع منطقة علوة على مرمى رمح إلى جنوبها. وقد امتازت المنطقة بقدرتها الفائقة على صهر البشر والثقافات، ووصل عرى الوئام والالفة بين مختلف العناصر. وحلفاية الملوك في ذلك الرمز والنموذج، إذ أنها تذخر بتنوع العناصر التي استقرت بها من داخل السودان وخارجه وتمازجها. ونظرة سريعة إلى أسماء مقابر كافية لإيضاح هذه الظاهرة، حيث نجد ترب الصواردة والمغاربة وود أب دفن وعبد المحمود والدواليب والضيفلاب وغيرهم.
هذا وتنقسم الحلفاية إلى فريقين كبيرين: احدهما يغلب عليه الشايقية ويسمى فريق (الشايقية) والآخر تسكنه بقية المجموعات ويسمى (فريق البلد) وتأكد هذا الانقسام مع ظهور الأتراك الذين تعاون معهم الشايقية في إخماد الفتنة التي انتظمت المنطقة.
في أعقاب إحراق الجعليين إسماعيل باشا في شندي في عام 1822م. ومن ثم إحراق أهل الحلفاية للحامية التي خلفها الأتراك. فهرب كثير من أهل الحلفاية، وكافأ الأتراك الشايقية بمنحهم أراضي الحلفاية واستقر هؤلاء كجماعة في الجزء الشمالي الشرقي من المدينة في الفريق الذي ما زال يحمل اسمهم. أما فريق البلد الذي يضم بقية المجموعات السكانية، فهو أيضا مقسم بحسب كثافة هذه المجموعات ونلحظ في هذا المقام مجتمعات المغاربة، الهوارة ، الضيفلاب، الدواليب، الصواردة، الخوجلاب، الجعليين، العبدلاب، الشناقيط وهلم جرا. ولكننا نلحظ في نفس الوقت تمازجاً بعيد المدى وتشابكاً في الأرحام والأنساب بين مختلف هذه المجموعات وآية ذلك أن التزاوج بينهما أزال الحواجز وكاد يجعل من معظم سكان الحلفاية أبناء عمومة تصل بينهم وشائج الرحم والجوار بأكثر مما تصل بينهم وشائج الانتماء لهذا العنصر القبلي أو ذاك.
الحياة الاقتصادية:
وقوامها الزراعة والتجارة. فالحلفاية منطقة زراعية ويعمل كثير من أهلها بالزراعة النيلية في الجزائر والجروف على النيل، وبالزراعة المطرية إلى الشرق. ولأهمية السواقي والمراكب للمنطقة اجتذبت الحلفاية عدداً كبيراً من أهل الشمال من الدناقلة والجعليين والمحس لخبرتهم الطويلة في هذا المجال. ويذكرون أن أول من ادخل الشادوف أو النبرو هو الشيخ هلاوي جد أولاد هلاوي في أوائل العهد التركي، وهو جعفري قدم من مصر. وقد سجل المزارعون هذا الحدث في أغانيهم. ومن زاوية أخرى كانت الحلفاية مركزاً تجارياً هاماً. وبالتالي فإن كثير من أهلها عمل بالتجارة. فكان للمغاربة نصيبهم الكبير في هذا المجال. كما كان للبديرية والشايقية وغيرهم. وقد كان أهل الحلفاية قطب الرحى في تجارة المحاصيل بالنيل الأبيض. وكانت معظم تجارة كردفان ودارفور في أيدي أبناء الحلفاية. ويذكرون أن أسواق الأبيض والنهود وبارا والفاشر وغيرها كانت تقوم في معظمها على جهدهم. وكان هذا دأب أهل الحلفاية منذ عهد الفونج حتى لقد عرفت بـ (حلفاية التجارة) وكان فيها سوق يدعى (سوق الشلاتيت) يتعامل فيه التجار مع كل الجهات من شندي وسنار ومصر وكردفان ودارفور وغيرها.
العمران:
كما أسلفنا، كان من المقرر أن يكون مقر مركز منطقة بحري حلفاية الملوك. إلا أن الحكومة الانجليزية أحجمت عن تنفيذ ذلك لان أهل الحلفاية لم يستسيغوا الفكرة خوفاً من تعرض مواطنهم الوداع للمشاكل التي يجرها قيام المركز. ومن ثم انتقل المركز إلى الخرطوم بحري. ورغم ذلك فقد أخذت يد العمران تمتد تدريجيا للمدينة. ففي عام 1921م تم إنشاء كرنتينة البهائم في محطة صغيرة للسكة حديد لترحيل البهائم. وكان ذلك بلا شك مصدر حركة تجارية استفاد منها عدد كبير من أهل المدينة. وفي الثلاثينات أنشئت الشفخانة التي تطورت إلى مركز صحي في أوائل الستينات، حيث تم ربط المدينة بالعاصمة القومية بطريق المعونة الأمريكية المسفلت. ومن ثم شرع في تخطيط المدينة وعمرانها، فكانت الامتدادات الجديدة والتي مدت بخدمات المياه والكهرباء.
الحياة العلمية والثقافية:
ظلت الحلفاية موئلاً للعلماء من كل حدب وصوب. كما ظل أهلها على صلة مستمرة بكافة مراكز العلم المشهورة في كل أنحاء السودان. فكانوا يرتادون خلاوي دنقلا وشندي والجوير قرب المتمة والتي كانت مركزاً هاماً من مراكز العلم. وبالمثل اجتذبت خلاوي الحلفاية ومساجدها الطلاب من كل الجهات. والواقع أن رحلات طلب العلم لم تقف عند حدود السودان. وآية ذلك أن عدداً من علماء الحلفاية لم يكتفوا بالمصادر المحلية بل ذهبوا إلى خارج السودان معلمين ومتعلمين. فمنهم من ذهب إلى دارفور ومنها إلى سلطنة وداي. وارتاد الكثيرون منهم مصر طلباً للعلم في الأزهر الشريف، وهكذا حفلت الحلفاية طوال تاريخها بالعلماء والفقهاء والمؤرخين والشعراء والأدباء وغيرهم من المثقفين. نذكر منهم تمثيلاً لا حصراً الشيخ عوض صالح (مفتي السودان الأسبق)، الأستاذ الشاعر عبد القادر شيخ إدريس (أبو هالة) والأستاذ / الشيخ الطيب الهندي، والشاعرين الكبيرين إدريس جماع صاحب ديوان (لحظات باقية) وابن خالته محمد علي صاحب ديواني (أشجان والحان وظلال شاردة) وكذلك الأكاديمي والباحث المرموق د. عون الشريف قاسم الذي كان مديراً لمعهد الخرطوم الدولي للغة العربية 1988م والذي رفد المكتبة السودانية بالعديد من الإصدارات القيمة، نذكر منها قاموس اللهجة العامية في السودان، وموسوعة القبائل السودانية، من قضايا البحث الحضاري، دبلوماسية محمد (ص) ، وسفره القيم عن حلفاية الملوك موطنه ومسقط رأسه. وقد عولنا عليه كثيراً في كتابة هذا المقال.
ولم يكن هذا الزخم العلمي والثقافي الذي امتازت به الحلفاية في القرن العشرين إلا امتداداً لماضيها الحافل ورصيدها الطيب في هذا المجال. وآية ذلك ما نهضت به أسرة الضيفلاب من جهود علمية تجل عن الوصف. وينتسب الضيفلاب المنتمون إلى جهدهم ضيف الله الكبير، إلى الفاضلاب. ويرجع أصل فاضلاب حلفاية الملوك إلى قرية أم الطيور قرب الدامر، وقد جاء جدودهم إلى الحلفاية قديماً لان (طريق الجمل) الذي يربط بين الدامر وحلفاية الملوك كان يشجع على الهجرة والترحال والتجارة، وحيث ما سافر الناس وتاجروا، تحدثوا وفكروا.
وقد بدأت أسرة الضيفلاب مسيرتها العلمية الكبرى مع بروز جدهم ضيف الله ابن علي الذي ولد بالحلفاية عام 1604م وتوفى بها في عام 1684م. وهو أول من درس الفقه بجامع الحلفاية الكبير. وسار ابنه محمد على طريقه. وكان من رفقاء دراسته الشيخين الجليلين خوجلي عبد الرحمن، وحمد ود أم مريوم اللذين تنسب إليهما حلتي حمد وخوجلي ببحري.
كتاب الطبقات:
ولقد ظل الضيفلاب يتولون منصب القضاء في شيخة العبدلاب إلى أواخر أيام المشيخة. وكان أشهرهم صيتاً في هذا المجال: الشيخ محمد النور ضيف الله صاحب كتاب الطبقات (1727 ـ 1809). والذي كان نابغة عصره في العلم والقضاء والفضل. ويعتبر هذا الكتاب أعظم اثر تاريخي عن حياة السودان الاجتماعية والثقافية في عصر الفونج والعبدلاب. وهو المصدر الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في نشأة وتطور الثقافة الإسلامية في دولة الفونج (1505 ـ 1821)م وكذلك أهم مصدر لحركة التصوف في السودان.
ولقد قام بروفسور: يوسف فضل بتحقيق مخطوط الطبقات في عام 1970م تحت عنوان (كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان) ذاكراً انه مرآة صادقة لحياة السودانيين الروحية والدينية والثقافية والاجتماعية، وسجل صادق لمعتقداتهم الدينية في ذلك العصر أيا كان رأينا فيها. وحوى الكتاب ترجمة لحوالي (260) من تلك الشخصيات والرموز في كل المجالات الدينية والثقافية والفكرية. ولقد أهمل ود ضيف الله ذكر الملوك وشئون الحكم مما يدل على طغيان الحركة الفكرية وتنامي تأثيرها على أوضاع السياسة والاقتصاد.
ولا شك أن المؤلف في أخباره عن الشعوذة والخرافة التي كانت رائجة في زمانه. وفي حديثه عن الكرامات وخوارق العادات التي أسبغها الأتباع على مشايخهم في ظنونهم قادرين على إبراء المرضى وإحياء الموتى والأخبار عن الغيب ، وقد أرخ لكثير مما لا يرضاها العقل ولا يقبله الدين، ولكنه ترك لنا معلومات ثرة عن معتقدات السودانيين والتي تمثل الجذور التاريخية لكثير مما هو سائد في سودان اليوم. وكل هذه سمات هامة من سمات ذلك، ولا يمكن تجاهلها أو التقليل من قيمتها.
وتعكس مادة الطبقات أن ود ضيف الله رغم ثقافته الواسعة لم يكن مؤرخاً بالمعنى المتعارف عليه اليوم: يلتزم بالموضوعية في اختيار مادته ثم يعقب على ذلك بشيء من النقد والتحليل، ولكنه مع ذلك كان مرآة صادقة وسجلاً حافلاً لما في عصره من أخبار وأحوال دون أن يناقش ما أورده أو أن يحذف منه ما لا يقبله العقل أو يرضاه الدين. بل وقف في كل ذلك موقف الراوي الأمين دون أن يمس مادته بالتعديل أو التعليق إلا فيما ندر.
ويبرز المؤلف دور المرأة في هذا المجتمع إذ بيَّن نشاطها في ميادين التجارة والعلم والتصوف موضحاً نوع المشاكل الاجتماعية التي تواجهها.
وميزة الطبقات الكبرى أن أسلوبها يعتبر نموذجاً فريداً وأصيلاً للنثر العربي في السودان. وهو أسلوب واضح سهل في غير ما تكلف أو صنعة ظاهرة: وتغلب عليه اللغة العامية خاصة عندما يروي المؤلف قصة أو خبراً سمع به فسرده محافظاً على الروح الأصلي لأسلوب من غير تبديل أو تغيير.
وفي ثنايا حديثه عن أبطال كتابه يكشف المؤلف أمامنا معلومات ثرة عن حياة السودانيين الدينية والعلمية والأدبية والاجتماعية، وتكشف لنا كل هذه المعلومات عن المؤثرات الحقيقية التي أسهمت في تكوين جذور الشخصية السودانية المعاصرة.
حقاً لقد جعلت عبقرية الزمان والمكان من حلفاية الملوك نموذجاً ورمزاً للتماذج الديني القومي وإحدى أهم مراكز الثقافة السودانية على مر العصور. وسلام وألف سلام يا عمران.
رؤى الساعة 25
ولقد رميت ولست أول كوكب نفس الزمان عليه فضل شهابة

هناك تعليق واحد:

  1. جزيت خيرا د.عثمان على المعلومات المهمة والمفيدة عن تاريخ بلدنا العظيمة حلفاية الملوك وانها والله لاطيب ارض الى قلبي بعد الحرمين الشريفين...

    ردحذف

المؤلف

صورتي
عطبرة, نهر النيل, Sudan
مؤرخ وأستاذ مادة التاريخ بالجامعات السودانية