محتويات الموقع

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2009

تاريخ الحركة العمالية (1924 ـ 1956)م أحد أهم المرتكزات الأساسية (1 - 3)

في الذكرى الرابعة والخمسين للاستقلال 2010م
تاريخ الحركة العمالية (1924 ـ 1956)م أحد أهم المرتكزات الأساسية
في تاريخ السياسة السودانية (1 ـ 3)


إذا كانت ثورة 1924م تمثل منعطفاً هاماً في تاريخ السودان الحديث، إذ أنها كانت بداية لمولد الحركة الوطنية السودانية الحديثة التي قادت البلاد للحرية والاستقلال في مطلع عام 1956م، فإن أحداث كتيبة السكة الحديد بعطبرة والتي ارتبطت بتلك الثورة الأم، تجعلنا نستنتج استنتاجاً سائغاً بأنها هي الأخرى كانت رافداً من روافد العمل الوطني آنذاك وآية ذلك أن أسباب الثورة في هذه المدينة كانت تنبع من أسباب الثورة العامة بالبلاد، ومن أسباب أخرى خاصة بها. لقد كانت الثورة في عطبرة -والى حد كبير- هي ثورة كتيبة السكة الحديد، حيث كانت أغلب الأحداث وأهمها متركزة حول ما قامت به تلك الكتيبة من شغب وثورة في المدينة، كانت حصيلتها حوادث دامية أدت إلى مقتل وجرح عدد كبير من أفراد الكتيبة وتخريب ممتلكات المصلحة واضطراب شديد في حبل الأمن والاستقرار.
كانت قد مضت ثمانية وعشرون عاماً على وجود كتيبة السكة الحديد في عطبرة عندما قامت ثورة 1924م، إذ أنها ظهرت مع خط السكة الحديد الذي أنشئ من أجل غزو السودان في حملة كتشنر المعروفة (1896)م. وبمرور الوقت أصبحت جزءاً من النظام بالبلاد. وقد ظلت تلك الكتيبة تقوم بدور هام في بناء الخطوط وحراستها وحماية سائر ممتلكات السكة الحديد، هذا بجانب قيامها بأعمال كثيرة ليست من صميم عملها العسكري.
والحقيقة أن هذه الفرقة ورغم كونها عسكرية، كانت تتألف من المهندسين والفنيين المهرة الملمين بالأعمال الفنية والهندسية الخاصة بالسكة الحديد من نجارة وحدادة وبرادة.. الخ، مما جعلها ذات فائدة قصوى كعنصر تعليمي وحضاري للعمال السودانيين الذين كانوا حديثي عهد بمثل تلك الأعمال.
كانت للثورة في عطبرة والتي تبلورت وتجسدت في تمرد كتيبة السكة حديد، أسبابا عامة اشتركت فيها مع الثورة الأم يمكن تلخيصها في الآتي: وقد تمثل أول تلك الأسباب في فكرة وحدة وادي النيل وضرورة توحيد تحت التاج المصري بعد إجبار الانجليز على الجلاء من شطري الوادي، ولقد كان شعار (وحدة وادي النيل) أداة اتكأت عليها الحركة الوطنية السودانية في صراعها مع الاستعمار البريطاني، كما كان رمزاً استلهمته عندما غشيها بريق الحركة الوطنية المصرية، والشاهد أن كل حركة تحريرية تحتاج إلى رمز تجدد فيه طموحاتها، وكان البعض ينظر إلى وحدة وادي النيل من خلال حضارة مصر وتراث مصر وثقافتها العربية الإسلامية. وهذه بطبيعة الحال مصادر الهام كان يستعين بها الوعي القومي وهو يشيد بكينونته. وقد عبر الشعراء السودانيون عند هذا الجانب الرمزي على نحو ما نجد مثلاً في قصيدة العباسي (اسمعينا جنان).
أسفري بين بهجة ورشاقة وأرينا يا مصر تلك الطلاقة
وكفانا بالدين عروتنا الوثقى وبالضاد لحمة وصداقة
وكذلك التيجاني يوسف بشير في قصيدته (ثقافة مصر):
عادني اليوم من حنينك يا مصر رؤى وطوفت بي ذكــرى
كلما أنكروا ثقافة مصــــر كنت من صنعها يراعا وفكراً
جئت في حدها غراراً فحيا الله مستودع الثقافة مصـــرا
ورغم ذلك فإنه يبدو من الاوفق والأسلم أن نفس حركة اللواء الأبيض، بأنها حركة سودانية لحماً ودماً، وأنها كانت تعمل لخدمة المصالح السودانية بالتعاون مع الوطنيين المصريين، أكثر من أنها واجهة للقاهرة.
ـ وهنالك سبب آخر تمثل في الصلف والغرور والاستعلاء الانجليزي والتنطع والعنجهية المبالغ فيها، وقد عانى كثير من السودانيين من مثل تلك التصرفات التي لم تراع عرفاً ولا تقليداً، ولم تحسب حساباً لإباء وعزة نفس الفرد السوداني. وقد ساعدت تلك الممارسات في إيجاد وحدة في الشعور ضد المستعمر وكانت سبباً وجيهاً للثورة.
ـ يضاف إلى ذلك سلسلة من المظالم تمثلت في الضيق الاقتصادي والأزمات المالية المتكررة وضيق فرص التعليم وضآلة فرص التوظيف والكبت وكتم الحريات التي تصل إلى حد منع التجول في المدن بعد الساعة التاسعة مساء بحجة حفظ الأمن. كل ذلك ساعد على تكديس عوامل الثورة في نفوس السودانيين.
ـ ويمكن القول أن أحداث عام 1924م، كانت نتاجاً شرعيا لتطور التعليم في البلاد. فقد أسهمت المدارس بما نشرته من علم في أضعاف شوكة الاختلافات القبلية وشجعت على نمو الروح القومي. وآية ذلك أن خلفية التعليم المتماثل بين المتعلمين وطرق الحياة المتشابهة والدراسات بكلية غردون التذكارية والتحاقهم جميعاً بالوظائف الحكومية، خلقت كلها روابط حميمة بدلاً من الروابط القديمة القبلية.
ـ ومن زاوية أخرى فقد أرست السكة الحديد مقدمات ثقافية وسياسية قومية تم نقلها من خلال العابرين لأغراض التجارة أو التعليم أو السياحة أو بغرض التواصل الإنساني عموماً، ولقد كانت قطارات المصلحة وقطعها النهرية أشبه بمدارس متحركة عملت على نقل الثقافة إلى السودان، إذ ظلت الصحف والمجلات والكتب المصرية ترد إلى البلاد بلا انقطاع منذ الحرب العالمية الأولى 1924م، وليس من شك أن ورود مثل تلك المطبوعات له اثر بالغ الخطر في الفكر والسياسة والثقافة.
ـ لم تعمل الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)م والثورة التي اجتاحت البلاد العربية عام 1916م بزعامة الشريف حسين بن علي ، والي الحجاز، والمبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس (ودرو ولسون) Woodrow Wilson رئيس الولايات المتحدة ونشوء الحركة الوطنية المصرية، على استشارة روح المتعلمين السودانيين فحسب، بل ساهمت في بعث ونمو الروح الوطنية أيضا.
لم يكن تمرد كتيبة السكة الحديد بمعزل عن هذه الأسباب، ولكن ومع ذلك كانت له أسباب خاصة:
ـ سوء المعاملة التي وجدها أفراد الكتيبة من رؤسائهم البريطانيين
ـ ما أفادت به تقارير المخابرات من أن أفراد الكتيبة كانوا محرضين للقيام بالثورة من قبل بعض الموظفين المصريين بالسكة الحديد.
ـ سخط المصريين واستيائهم على سياسة حكومة السودان الرامية إلى تصفية الوجود المصري، المدني والعسكري بالبلاد، ذلك لان الحكومة لم يكن لها ثقة كبيرة في الوسطاء والسماسرة، ولهذا رأت أن أفضل طريق للتخلص منهم جعل الطرفين أصحاب المصلحة الحقيقية البريطانيين والسودانيين يقفان وجهاً لوجه.
ـ أما السبب المباشر والشرارة التي أشعلت الموقف، فكانت تتمثل في وصول صالح عبد القادر وكيل جمعية اللواء الأبيض ببورتسودان إلى محطة عطبرة في التاسع من أغسطس 1924م محروساً حراسة مشددة ورهن الاعتقال في قطار خاص في طريقه من بورتسودان إلى الخرطوم. ولدى وصول القطار اندلعت مظاهرة من كتيبة العمل المصرية بعطبرة. وفي اليوم التالي قامت الكتيبة بمظاهرة مسلحة انضم إليها بعض المدنيين وتسبب في إتلاف مباني السكة الحديد وورش الصيانة ومزقت العلم البريطاني وحطمت مكتب رئيس العمال البريطاني، وسرعان ما انتشرت روح التمرد لتشمل العاملين على السكة الحديد وخارج عطبرة. ومهما يكن من أمر فقد أمكن أخيراً محاصرة التمرد والسيطرة عليه ومن ثم اصدر الحاكم العام في الخرطوم أمرا بتسريح الكتيبة.
* الآن كيف أثرت تلك الأحداث في المسار الإداري والنضال العمالي في مرفق السكة الحديد؟
ـ كانت النتيجة الأولى والهامة التي تمخضت عنها تلك الأحداث هي: رحيل كتيبة السكة الحديد من عطبرة إلى أسوان ونهاية عملها بسكك حديد حكومة السودان، فبحلول اليوم الثلاثين من شهر أغسطس 1924م كان أفرادها من وصلوا إلى الأراضي المصرية. وكان ذلك آخر العهد بها.
ـ ولقد أعطى رحيل الكتيبة دفعة قوية لعملية السودنة في مرفق السكة الحديد فقد قامت السلطات بملء الوظائف التي شغرت بالسودانيين الذين سرعان ما برهنوا بعد تدريبهم على كفاءتهم ومقدرتهم مما شكل تطوراً هاماً ورصيداً طيباً للعمالة السودانية، ولا شك أن ازدياد حجم العمالة الحضرية بالمصلحة كان من أهم أسباب تكتل العمال ودفعهم للعمل النقابي والسياسي لاحقاً.
ـ وبطبيعة الحال، فقد اقتضت عملية السودنة مزيداً من الاهتمام بالتعليم الفني ففي عام 1925م، أنشئت مدرسة الصنائع بعطبرة الأمر الذي أدى إلى بروز طبقة عمالية ذات خبرة فنية جديدة، وفي كنف هذه المدرسة تأهلت معظم الكوادر العمالية التي حملت عبء العمل النقابي فيما بعد. ولهذا قيل بأنها قامت في هذا المجال بنفس الدور الذي قامت به بخت الرضا في مجال التعليم.
ـ ساهم غياب الكتيبة في أن تتخلص المصلحة تدرجياً من ذلك الطابع العسكري الذي تدثرت به منذ الغزو في 1896م وآية ذلك انه في عام 1925م تسلم إدارة السكة الحديد ولأول مرة مدير مدني هو المستر باركر C. Parker خلفاً للكونيل مدوينتر E. Midwinter ولعل هذا الطابع المدني قد مهد الطريق لمزيد من الحرية للعاملين ليسمعوا صوتهم للإداريين والمسئولين ومن ثم اخذ العمال يتحسسون طريقهم نحو آفاق أوسع وأرحب في مجال العمل الجماعي استوعب طموحاتهم وتلبي أشواقهم على هذا النحو الذي ذكره أحد قادتهم وحداتهم ، المناضل العطبراوي عبد الله بشير:
جمعية اللواء عقدت فيك آمالي
ومرحب بالصعاب الفيكي مقسومالي
أوهبتك جهودي ومهجتي وأعمالي
من أجلك أضحى بحياتي أهلي ومالي

سوادنا كريم وتحالفُه مصر الحرة
تسطع دولة في أفريقيا زي الدرة
من بعد الخمول والاستعانة المرة
تاريخ الجدود لازم يعيد الكرة
أدى تسريح كتيبة السكة الحديد إلى تطور هام في مجال حفظ الأمن، فقد مهد الطريق لقيام شرطة السكة الحديد التي بدأت عملها الفعلي في أكتوبر 1924م والتي أصبحت الوريث الشرعي للكتيبة في حفظ أمن المصلحة وحماية ممتلكاتها.
وهكذا كانت أحداث عام 1924م بعطبرة، مدينة العمال ومركز السكة الحديد بمثابة ضربة البداية في مسيرة العمال الظافرة في مجال العمل النقابي والسياسي، وآية ذلك أنها تمخضت عن زيادة واضحة في حجم الطبقة العاملة الحضرية والتي سرعان ما تسلحت بالمعرفة الفنية المطلوبة في مدرستها العتيقة، المدرسة الصناعية ومن ثم أخذت جموع العمال تبحث عن منابر فسيحة، تعبر من خلالها عن طموحاتها وأشواقها. وقد وجدت ضالتها في الأندية العمالية خلال الثلاثينات، أولاً. ثم العمل النقابي الصريح في الأربعينات من القرن الماضي. ثانياً. وسنتطرق لكل ذلك في أعدادنا القادمة بمشيئة الله.
استراحة العدد...
أنا عطبرة
شعر: الحاج عبد الرحمن
أو تسأل من أنا ؟!
أنا جنة المستقبل..
أنا قلعة أرسل ضياءً من علٍ..
أنا عطبرة أم الشباب العامل

أنا ان سكت فبين أحشائي
براكين تثور..
أنا عطبرة.. يا نعم عاصمة الحديد..
إن جاء زرعي عاصفاً
تنمو الازاهر من جديد
لن تجدب الأرض..
التي رويت بقطرات الجنود

أنظر ترى التاريخ يحضنني
كرمز للخلود...
ما ضرني حكم الضرير..
إذا تنكر للوجود..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المؤلف

صورتي
عطبرة, نهر النيل, Sudan
مؤرخ وأستاذ مادة التاريخ بالجامعات السودانية