محتويات الموقع

الخميس، 10 ديسمبر 2009

التاريخ طبيعته – موضوعه – طريقته – قيمته وأهدافه

التاريخ طبيعته – موضوعه – طريقته – قيمته وأهدافه

إن التاريخ عن طريق استقراء قوانينه، هو علم ما كان وما هو كائن وما ينبغي أن يكون. إنه علم الماضي والحاضر والمستقبل". · التاريخ في أوسع معانيه هو: " كل شئ في الماضي" بل هو الماضي نفسه.. أو بعبارة أدق ما نعرفه من هذا الماضي. فهناك تاريخ للنبات وآخر للحيوان وثالث للتربية ورابع للقانون.. الخ. ولكن التاريخ كمصطلح.. إنما هو تاريخ الإنسان.. فهو دراسة للنشاط الإنساني في البعد الزمني الممتد عبر ملايين السنين والذي نسميه الماضي.
طبيعة التاريخ:
لفظة تاريخ من حيث اللغة: غايته ووقته الذي ينتهي إليه. ولهذا يقال أرخ الكتاب.. أي تاريخه، وأرخ الحادث ونحوه: فصل تاريخه وحدد وقته. ولقد بدأت كلمة التاريخ حياتها كتعبير فني بعد ظهور التاريخ الهجري في عهد عمر بن الخطاب (634-644م). وآية ذلك أن هذه الكلمة لا تظهر في الأدب الجاهلي.. كما أنها غير مذكورة في القرآن الكريم ولا في الأحاديث النبوية. ولقد أصبحت كلمة تاريخ تحمل في العربية بعد ظهورها ومنذ زمن بعيد من المعاني على الأقل وهي:
1. سير الزمن والأحداث أي التطور التاريخي.
2. تاريخ الرجال.
3. عملية التدوين التاريخي ورصف وتحليله.
4. علم التأريخ والمعرفة به وكتب التاريخ وما فيها.
5. تحديد زمن الواقعة أو الحادث باليوم والشهر والسنة.
أما كلمة تاريخ "History" في اللغات الأوربية الحديثة، فهي يونانية الأصل. وقد أطلقها اليونان على ذلك النوع من الكتابة الذي مارسه هيردوتس "Herodotus" + 425 ق.م الملقب "بابي التاريخ" ويعني جزرها فعل النظر.. أو بالأحرى شاهد العيان وما يضيفه هذا الشاهد إلى تجربته الخاصة. والكتابة التي مارسها هيرودتس هي: رواية الأحداث الماضية. وبالعودة إلى معنى الكلمة في أبسط أشكالها هي التدقيق والتحميض. فتاريخ اليونان مثلاً يقصد به تحميص ماضي تلك الأمة، يختار منه المؤرخ الأحداث الهامة التي لها صلة قوية بالغرض الذي يبح من أجل الوصول إليه.
ومادمنا قد تعرضنا للفظة تاريخ في العربية، "History" في اللغات الأجنبية، فأنه يجدر بنا أن نشير إلى اللبس الذي ظهر حديثاُ على هذه اللفظة. فهي في العربية " من تأريخ" "بالهمز". تطلق تارة على الماضي البشري ذاته، وتارة على الجهد المبذول لمعرفة ذلك الماضي ورواية أخباره. ويظهر أن الذهن البشري ينتقل عفواً بين المعنيين دون تمييز دقيق بينهما. وحديثاً قام المؤرخ اللبناني قسطنطين زريف في كتابه: "نحن والتاريخ" بالقصوى لهذا الموضوع، ووجهة نظره تقوم على أساس أن استخدام لفظة "التاريخ" للتعبير عن حوادث الماضي أمر حديث الشيوع. وعليه فهو يعتقد أنه يمكن تجنب هذا اللبس بأن تطلق كلمة "التاريخ" "بالهمز" على دراسة الماضي. "والتاريخ" على الماضي ذاته.
موضوع التاريخ:
يقول د. كولنجود المؤرخ البريطاني في كتابه المشهور: "فكرة التاريخ": أن التاريخ نوع من أنواع البحث العلمي. وكلمة علم هنا تعني*: بلا شك من جهود الإنسان. أي الأعمال والانجازان التي حققها الإنسان في الماضي.
. طريقة التاريخ:
إن الطريقة التي يعتمدها التاريخ في نتيجة لأحداث الماضي إنما هي التحليل والتعليل في إبراز الأحداث ورصدها وتعينها والبحث من ثم عن حكمة من وراء ذلك. ويعتمد المؤرخ في كل ذلك على الآثار التي تخلفا عن الماضي والتي توجد عادة في أشكال شتى يصعب حصرها. وقد قسمت المصادر التاريخية قسمين: الروايا المأثورة، والمخلفات. والروايات مصادر تدل على الرغبة المقصودة من جانب الإنسان في نقل المعلومات وهي على ثلاثة أنواع:
1. الروايات الشفوية.
2. الروايات المكتوبة أو المطبوعة.
3. الروايات المصورة بما فيها الخرائط والرسوم.
أما المخلفات فهي بقايا غير شعورية أو ما بقى من اللغة والأدب وغيره من أنواع التعبير الفني والمنتجات الصناعية والقوانين والعادات.وهناك تقسيم آخر للمصادر من حيث أنها أولية أو مشتقة. وتسمى المصادر الأولية مصادر أصلية. وأحياناً تسمى مصادر فقط. وهي إما مخلفات مادية مباشرة، وإما نقش أو تعبير مباشر بأي طريقة من طرق النقش أو التعبير بقيت من العصر الذي ينتمي إليه. وقد تكون طرفاً أو جسوراً أو مباني أو آثاراً أو عملية.. الخ. وقد تكون ذكريات شخصية لحوادث شهدها صاحب.. الذكريات أو تقارير كتبها أحد من شهود الحادث أو نصوصاً للقوانين والمراسيم والأوامر والدساتير والأحكام القضائية والمعاهدات والتعليمات الرسمية والوثائق الاقتصادية. والمصادر المشتقة قد تكون ثانوية أي مثيلاً مبنياً على المصادر الأولية، وقد تكون من الدرجة الثالثة، أي مبنية على المصادر الثانوية.
قيمته وأهدافه:
وإذا كان الماضي.. كما أسلفنا – هو مجال التاريخ، فمعنى ذلك أن قيمة التاريخ مرتبطة بالضرورة بقيمة التاريخ مرتبطة بالضرورة بقيمة هذا الماضي لنا. فهل نحن حفاً محتاجون لدراسة الماضي.
1. التاريخ يفسر الحاضر:
لا جدال في أن التاريخ الذي يتابع الماضي وأحداثه وتطوراته ليربط بينما أداة لا غنى عنها في تفسير الحاضر الأمر الذي يساعدنا كثيراً في الوقوف على جذور المشكلات الراهنة وخلفياتها وبالتالي يجعلنا أقدر على* أيجاد الحلول المناسبة لها.فالماضي
2. التاريخ ومفهوم الوحدة القومية:
إن الوحدة القومية إنما تبني على ذكريات مشتركة ووجدان حاري وعقائدي مشترك. وعلى الجملة ففي التاريخ يلتمس وجدان. الشعوب وضميرها وتراثها ولغتها التي تكون منطلقا لوحدتها القومية. وآية ذلك أن هذا التراث الذي يرقد في التاريخ هو الذي يخلف الأجسام المشترك بين الجماعات وهو الذي يسهم بالتالي في الوحدة القومية. إن غياب الإحساس بالانتماء هو الذي جعل شاعر العربية- المتنبي.. لا يحفل كثيراً "بشعب بواب" من بلاد فارس ولا بسحرها وجمالها:
مغاني الشعب طيباً في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان
ولكـن الـفتى العــربي فــيها غريب الوجه واليد واللسان
3. التاريخ ومفهوم التربية:
رغم تعدد المدارس الفكرية واختلافها بالنسبة لمفهوم التربية، فان ما بهمنا منها مدرستان: المدرسة المثالية ومن أبرز زعمائها في العصور الحديثة فيلسوف الثورة الفرنسية جان جاك روسو +1778م الذي عرف التربية بأنها "كل ما نقوم به من اجل أنفسنا، وما يقوم به الآخرون من أجلنا بغية الوصول إلى كمال طبيعتنا. والمدرسة الواقعية ومن أبرز دعاتها الفيلسوف الأمريكي جون ديوي +1962م والذي عرف التربية بأنها: "العمل الإداري الذي يقوم به الراشدون تجاه الناشئة بغية إيصالهم بدورهم إلى مرحلة النضج"
وبرغم تعارض المدرستين فإنهما على اتفاق في إن من الأمور المطلوبة تربوياً "خلق المواطنة المستنيرة" "Benevolent Citvsen ship" وهذه لا تتحقق إلا إذا فهم النشئ مجتمعهم فهماً يوقفهم على حقيقة المؤسسات القائمة فيه فعلاً على اختلاف أشكالها من دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية… الخ. وهذا الفهم لن يحدث إلا على ضوء المعرفة التاريخية التي تبرز حقيقة ومغزى ذلك المؤسسات. وهذا الفهم هو الذي يجعل النشئ يتسامحون في نظرتهم وموقفهم من تلك المؤسسات، بل ويدفعهم للمساهمة فيها والعمل على تنميتها وتطويرها.ومن ناحية أخري فإن الوقوف على ماضي الأمة يجعل الأبناء يدركون حقيقة التضحيات التي بذلها أسلافهم وفي سبيلهم، زمن ثم يحفزهم هذا الإدراك للمحافظة عليها*. بل والإضافة إليها كماً وكيفاً. والشاهد أن تجارب الماضي تبقى دائماً هي الحصن المنيع للتجارب والخبرات الإنسانية في كافة المجالات. على حد تعبير لورد آكتن (Lord Acton) المؤرخ البريطاني: (History is the mighty tower of experience) .
4.المساهمة في تنمية الفعل:
إن الوسيلة التي يعتمدها التاريخ في تتبعه لأحداث الماضي إنما هي التعليل والتحليل، ولاشك أن تكرار مثل هذا النشاط يساعد على تنمية ….. التحليل والتعليل والقدرة على التذكر والتخيل والبناء مما يقوي وينمي مقدراتنا على مواجهة مشكلات الحياة.
5. المساهمة في معرفة الذات:
إن من بين أهداف التاريخ معرفة الإنسان لنفسه. في حين أن معرفة الإنسان لنفسه لا تقف عند مجرد معرفته بميزاته الشخصية التي تفرق بينه وبين إنسان آخر، إنما تعني أن يعرف طبيعة كانسان. إن معرفتك بنفسك.. هذا الشعار الذي طرحه سقراط في القرن السادس قبل الميلاد "أعرف نفسك "Know thy self" معناه في أول الأمر أن تعرف ما يراد "بكلمة إنسان" إن معرفتك بنفسك معناها معرفة ما تستطيع أن تفعل وما دام لا يوجد إنسان يعرف ماذا يستطيع أن يفعل حتى يقدم بالجهود فعلاً، فإن الطريق الوحيد إلى معرفة ما يستطيعه الإنسان هو الجهد الذي بذله فعلا. من هذا يتضح أن قيمة التاريخ ترجع إلى أنه يحيطنا علما لأعمال الإنسان في الماضي، وأذن بحقيقة هذا الإنسان. وفي ذلك يقوم المؤرخ البريطاني لورد اكتن :Lord Acton" "History is not a burden on the human memory, but it is an illumination for the Soul" " إن التاريخ ليس عبئا على الذاكرة، وإنما إضاءة للروح".
6. المساهمة في تنمية الأخلاق:
وإذا علمنا أن دراسة التاريخ لا تعني فقط …… الحروبات والغزوات والأحداث السياسية فحسب، وإنما تعمل بجانب ذلك على الترجمة لعظماء الإنسانية والوقوف على تاريخ الأديان والعقائد.. أدركنا مدى تأثير وفعاليته في تنمية وإثراء الأخلاق والقيم والمثل العليا للإنسان.
7. من وعى التاريخ في عمره:
أضاف أعمارا إلى عمره والعمر المضاف هنا من مقدار الحياة وليس مقدارا من السنين. إن لنا كأفراد فكر واحد.. وشعور واحد.. وخيال واحد. وبقراءة التاريخ يكون لنا أكثر من فكر.. و أكثر من شعور.. وأكثر من خيال.. ومن ثم تمنحنا قراءة التاريخ أكثر من حياة.
ولا بد في الختام من الإشارة إلى هذه الكلمات النابضة بالحياة لثلاثة من الأعلام.. شوقي.. وأمرسون "Amerson"- وبرندامدرسل "Russell"
أما شاعرنا شوقي فيقول في قصيدته "الرحلة إلى الأندلس" والتي جعلها:
اِختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسي اُذكُرا لِيَ الصِبا وَأَيّامَ أُنسي
حَسبُهُم هَذِهِ الطُلولُ عِظاتٍ مِن جَديدٍ عَلى الدُهورِ وَدَرسِ
وَإِذا فاتَكَ اِلتِفاتٌ إِلى الما ضي فَقَد غابَ عَنكَ وَجهُ التَأَسّي
أما العلامة أمرسون +1882م الشاعر الفيلسوف الأمريكي فيقول: " لابد أن نؤمن بما تنطق به السنون والقرون.. لا بما ينطق به الساعات والدقائق إن ماضي البشرية لم يمت.. فإن الإنسان تاريخ.. والتاريخ تجمع للماضي في الحاضر.. وضغط للحاضر على المستقبل. والموجود الحالي لم ينبثق من العدم.. وإنما هو ثمرة لجهود متواصلة قام بها الإنسان منذ فجر الخليفة.
والواقع أن العالم البشري كما نراه اليوم.. إنما يحمل ذكرى سقراط وأفلاطون وديكارت وموزار وماخ وشكسبير وغير هؤلاء. فليس عظماء الإنسانية موتى تحتضنهم أضرحة أو متاحف، وإنما هم شواهد حية ترسم وتنير أمامنا الطريق الذي سكنه الإنسانية في سبيل تحررها.. ابتداء من عهود الحيوانية، السحيقة حتى يومنا هذا. أما برزامدرسل الفيلسوف البريطاني 1962م "إن الطفل الذي يجرح نفسه يبكي.. وكأن الدنيا كلها أحزان "ذلك لأن عقله الصغير ينحصر في الحاضر فقط. إن الصبي يعيش في يومه.. والرجل الكبير يعيش في عامة.. والمؤرخ يعيش في حقبته. أما الفيلسوف. فإنه يعيش في الأبدية. فكل حادث عنده إنما هو قطرة ضئيلة وعابرة في الكون الغامض في بدايته ونهايته.
الشاهد أن التاريخ ذاكرة الأمم، وحينما تتجافى أمة عن تاريخها ومكونات أصلها وتراثها تصبح كما ضائعا.. وهملا هاملاً. والأمم الجديرة بالاحترام تحمي تاريخها وتستخلص منه الدروس والعبر، إذ أن خبرات الماضي خير معين وزاد على تحديات المستقبل. ألم نقل منذ البداية أن التاريخ عن طريق استقراء قوانينه هو علم ما كان وما هو كائن وما بنبقي أن يكون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المؤلف

صورتي
عطبرة, نهر النيل, Sudan
مؤرخ وأستاذ مادة التاريخ بالجامعات السودانية