محتويات الموقع

الأربعاء، 9 ديسمبر 2009

مدني السنى.. عمران سوداني نواته خلوة

سقى الحيا ود مدني
صوب الغمام يا السنى
جنة بلالي وعدتي
راحة فؤادي وبدني
خليل فرح
شهادة الميلاد :

تصنف ود مدني ضمن الجيل القديم من المدن الذي كان قائماً قبل مجئ الحكم الثنائي للسودان في 1898م ، ولكنها نمت وازدهرت بفضل البنيات التحتية التي أدخلها ذلك الحكم وأخصها: مواصلات السكة الحديد، مشروع الجزيرة في مجالي النقل والزراعة تباعاً.
فمدني القرن العشرين اذن هي: هبه هاتين الصنيعتين. أما مدني القديمة: فهي عمران سوداني ترجع نشأته إلى عهد السلطنة السنارية (1505-1821) وينسب إلي مؤسسة الشيخ محمد مدني السني الذي جاء سائحاً من أرض الحجاز وبني خلوة لتدريس القرآن والعلوم الشرعية وذلك في حوالي 988هـ ، 1599م . وجده هو قاضى العدالة (دشين) الوارد ذكره في طبقات ود ضيف الله.. والشاهد أن نشأة المدينة ارتبطت بالخلوة كمؤسسة دينية وثقافية وهي بهذا مدينة دينية وفرق بين المدن المدن التي ولدت نتيجة لدعوة دينية أو علمية مثل ، مكة ، القدس ، وتمبتكو على نهر النيجر ، والمدن التي ولدت نتيجة لظروف جغرافية أو تجارية أو سياسية مثل القاهرة ، بغداد ، والخرطوم .
وقد أذن الشيخ مدني واستقر في الأرض المرتفعة التي تعرف اليوم بحي المدنيين ومن ثم بدأ الناس يتوافدون على خلوته لينهلوا من معينها ومع تراخى الزمن وكر الأيام بدأت بعض القبائل تستقر حولها فأخذت المنطقة تنمو وتزدهر وصارت تعرف باسم ود مدني .
التطور البشري والعمراني للمدينة :
* في العهد التركي – المصرى :( 1821-1885) م:
يرتبط التطور البشري والعمراني بتطور الأنشطة الاقتصادية والعمرانية والشاهد أنه بمجئ الحكم التركي المصرى ، بدأت تغزو المدينة أعداد هائلة من القبائل والجماعات الهاربة من ويلات الحروب ومن هؤلاء الجنود الذين تم تسريحهم من الجيش التركي، فقصدوا ود مدني حيث وجدوا المأوى والأمان والعيش الرغيد فنزلت جماعة منهم في فراغ الأرض الواقع غرب جزيرة الفيل حتى حدود حي دبرق الحالي وقد حفزت خصوبة الأرض هؤلاء الجنود المتقاعدين على زراعة الذرة التي أخذوا يصنعون منها بجانب الغذاء شراب من الخمور البلدية يسمي المرية لم يكن مألوفاً لدى سكان المدينة يشربونه ويعتاشون كذلك منه .
وفق مخلفات العهد التركي المصرى على الصعيد الاجتماعي أيضاً ، نزوح واستقرار أعداد كبيرة من الشايقية والجعليين والدناقلة الذين نقلوا معهم حرفة الزراعة بشكل متطور مما أدى إلى تطور نسبى في النشاط الاقتصادي للسكان . كما أدخل عرب الشكرية والحلاويين ، وهم قوم رعاة للماشية يبحثون عن المراعي، أدخلوا تربية الحيوان في أطراف المدينة وفي سياق متصل وفدت للمدينة أجناس متعددة الهوية كالأقباط والأغاريق والشوام والهنود، أدخلت فنون التجارة في مجالات الأقمشة والمحاصيل الزراعية. وهكذا بدأ التطور الاقتصادي مصحوباً بالتطور البشري والتنوع السكاني للمدينة.
* في المهدية (1885-1898م) :
شهدت المدينة في هذا العهد شأنها في ذلك شأن سائر السودان تدهوراً سكانياً واقتصاديا ملحوظاً فقد هاجر سكانها إلى أم درمان تلبية لنداء القيادة السياسية آنذاك والتي رفعت شعار (لا صوت يعلو فوق صوت الجهاد) ، الأمر الذي أدى إلى تجييش المجتمع السوداني. وتدهورت نتيجة لذلك الزراعة وعم القحط والجفاف، وأخذت من ثم المجاعات تجتاح البلاد وانتشرت الأوبئة والأمراض التي ما لبثت أن حصدت الأرواح حصداً . وآية ذلك انخفاض عدد سكان السودان من ثمانية ملايين نسمة في عام 1881م إلى اثنين مليون ونصف المليون في عام 1898م.
* في عهد الحكم الثنائي 189-1956م :
تعتبر هذه الفترة بداية التطور العمراني والاقتصادي بمدينة ود مدني وآية ذلك أنه طرأت على المدينة في هذا العهد تطورات اقتصادية واجتماعية وتعليمية وسياسية طغت على النواحي التي مثلتها خلوة ومسيد الشيخ محمد المدني . فبروز مشروع الجزيرة ، وخدمات السكة الحديد ، أصبحت ود مدني مركزاً للمشروع وعاصمة للجزيرة ومعدية مواصلات برية ونهرية ويحسن بناء قبل تناول ذلك تفصيلاً أن نحدد الموقع الجغرافي للأرض التي بدأت تتمدد فيها المدينة .
يحد ود مدني شمالاً ، شاطئ النيل الأزرق من غابة أم بلدونا شرقاً حتى موردة الحطب بالدباغة غرباً وشرقاً تحدها جزيرة الفيل التي تقع على الضفة الغربية للنيل الأزرق وغرباً وجنوباً يحدها شريط السكة الحديد الذي يشكل شبه قوس في اتجاه من الجنوب إلى الغرب متجها شمالا للخرطوم وكانت هذه المساحة من الأرض تغطيها الأشجار والأعشاب الكثيفة ، وتسكنها الثعابين والمرفعين والنمور فضلا عن الفيلة في الجزيرة التي تحمل اسمها ، عموما تقع ود مدني على الضفة الغربية للنيل الأزرق قبل التقائه بنهر الرهد شمالا ولعل هذا الموقع الاستراتيجي كان ضمن الأسباب التي أهلتها لتكون مقراً لرئاسة مديرية النيل الأزرق ولم يكن في عمران المدينة آنذاك سوى قرية المدنيين نسبة الشيخ مدني والتي تتكون مبانيها من القطاطي وأعلاها من القش . هذا وقد توقف عمران المدينة خلال سنوات الحرب العالمية الأولي (1914-1918) وعقب الحرب مباشرة ظهرت أول مباني سكنية إلى الجنوب من الخط الحديدي ومعظم مبانيه من الشوك وبعضها من الطين، وكان يسكنها بعض المزارعين ونفر من أصحاب الأعمال الحرة.
التأثيرات الثورية لمشروع الجزيرة :
بقيام خزان سنار عام 1925م بغرض رى أراضي مشروع الجزيرة ، أخذت المدينة تنتعش اقتصاديا واجتماعياً خاصة وقد صارت عاصمة للمشروع ، بينما اختيرت بركات جنوب مدني في وسط أراضي مربوع أم سقط لتكون مقراً لرئاسة المشروع. والحقيقة أنه بحلول عام 1925م ، بدأت صفحة جديدة في تاريخ السودان الحديث . وآية ذلك أنه باكتمال بناء الخزان وإنشاء مشروع الجزيرة ، والذي أعتمد في غوه وازدهاره بصفة أساسية على خدمات السكة الحديد ، يكون قد تم وضع أسس التطور الاقتصادي بالبلاد . فقد فتح المشروع قنوات جديدة للتقدم والرفاهية ، إذ أمد البلاد بالمحاصيل النقدية والغذائية الأمر الذي قلل من مخاطر المجاعات . ولقد كانت آثار المشروع أوضح ما تكون في الجزيرة نفسها وآية ذلك أنه أتاح فرصاً واسعة للعمالة بالنسبة للمزارعين والعمال المرتبطين بهم وبخلاف عمال الزراعة كان بالمشروع فئة من العمال تقوم بالعمل في ورش الشركة وسككها الحديدية وفي المخازن ، بعضهم دائمون وبعضهم شبه دائمين ، يتركز عملهم خلال موسم جني القطن ، مثل سائقي المحاريث والعربات وموظفي الإدارة الموسميين وعمال استلام ووزن القطن والكينة والخضراء والممركين : وأضحى أرقام العبوات ودرجات النقاء وعمال المحالج والشحن والتفريغ . هذا وقد بلغ عددهم في محالج الجزيرة الثمانية خلال الخمسينات حوالي (4608) عامل وبطبيعة الحال أفسحت فرص العمل الكثيرة المجال للنمو العمراني بالجزيرة ، خاصة مدينتي مدني وسنار اللتين أصبحتا من المدن الهامة على المستوى القومي . كما أنها أدت إلى زيادة دخول العاملين زيادة كبيرة ، فارتفع مستوى معيشتهم ، وتجلي ذلك في ارتفاع معدل استهلاكهم للسكر ، وتحسنت ظروف مساكنهم وعمرانهم ، وكذلك أساليب المواصلات التي يستخدمونها مثل :
السكة حديد ، العربات ، كما توفرت لهم فرص أكبر في مجال التعليم والصحة والخدمات الأخرى .
وعلى صعيد آخر أدى المشروع إلى تغيير واسع في التركيبة القبلية والاجتماعية لمنطقة الجزيرة ، خاصة وقد ضم قبائل كثيرة لا سيما قبائل المديرية الشمالية وقد اتضحت عملية لمنطقة الجزيرة ، خاصة وقد ضم قبائل كثيرة لا سيما قبائل المديرية الشمالية وقد اتضحت عملية التغيير في القبائل التي كانت مستقرة أساساً في الجزيرة وعملت في المشروع مثل قبائل الشكرية ورفاعة والحلاويين والكواهلة وغيرها .
ومما لا شك فيه أن مدينة ود مدني المركز الحضاري للمديرية وعاصمة المشروع ، كان لها نصيب الأسد من كل ذلك الزخم الذي أحدثه في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية وآية ذلك أصبحت أسواق المدينة من أكبر الأسواق بعد الخرطوم ، كما أصبحت تحتضن كل المناشط الثقافية والسياسية والتجارية ، بجانب توفر الخدمات الصحية والتعليمية والترفيهية .
النقل الحديدي بالجزيرة (1909-1910) م وأثره :
بقدوم السكة الحديد بدأت مرحلة جديدة في التطور الاقتصادي كما حدث انقلاب في معايير المدن والمراكز العمرانية وآية ذلك أن النقل الحديدي طور مراكز العمران التي كانت تقع عند مقارن الأنهار ومفترق طرق القوافل التجارية . وبالنسبة لمديرية النيل الأزرق التي استأثرت بأكبر شبكة من خطوط المواصلات الحديثة ، تعينها على أداء وظائفها وخدمة مدنها وقراها وتسويق إنتاجها فقد تجمعت منذ البداية مدن وقرى الجزيرة حول ضفاف النيل الأزرق والأبيض استجابة لحركة الملاحة فيها سواء تلك التي وفرتها المراكب الشراعية أو ما انتظم فيها بعد دخول البواخر إلى السودان . وإثر دخول السكة الحديد الجزيرة عام 1910م تحققت عقدية المدن الكبرى في مديرية النيل الأزرق مثل مدني وسنار وكوستى . واستقرت إدارة المديرية في مدني بعد أن كانت في الكاملين التي تخطاها الخط الحديدي ، وانفتحت على الأسواق العالمية بعد اتصالها بميناء بورتسودان بخطى سكة حديد : الخرطوم – عطبرة – بورتسودان ، وخط الدوران : سنار- القضارف – كسلا – بورتسودان (تم تشييده فيما بين 1923-1929م) . هذا بجانب كونها ممراً لقطارات الشرق والغرب . وهذا في حد ذاته أمر جدير بتطويرها وزيادة حجم سكانها . الذي قفز من 47.677نسمة في عام (1954-1955) إلى 63.660 نسمة في عام (1964-1965) م ثم إلى 118.000نسمة عام 1973م . وبحلول عام 2004م قدر عدد سكان ود مدني بـ:430.487 نسمة . جدير بالذكر أن خط الخرطوم – مدني – سنار (1909-1911)م كان من التسهيلات التي أسهمت بها حكومة السودان في إقامة مشروع الجزيرة ، وآية ذلك أنه سهل عملية نقل وتوصيل الآلات والأدوات والمواد اللازمة لبناء خزان سنار كما أنه أصبح بالإمكان استخدام البناء نفسه كمعير أو جر لخط آخر لخدمة إقليم البطانة من ناحية أخرى .
* خطوط الجزيرة الضيقة (1919-1923) م وأثرها :-
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى 1918م شرع في تشييد سكة حديد الجزيرة الضيقة والتي أصبحت على مر السنين مرفقاً حيوياً هاماً للغاية لإدارة مشروع الجزيرة وكانت المهمات الأساسية لهذا المرفق في البداية ، ترحيل القطن من الحقول إلى المحالج في مارنجان والحصاحيصا ثم تطورت أعماله إلى كل ما يلزم المشروع من خدمات أخرى ، كنقل البذور والسماد والمحروقات والزيوت وغيرها . وفيما بعد دخلت سكة حديد الجزيرة في تنافس في ميادين الترحيلات التجارية عندما امتد خط سكة حديد الجزيرة إلى الباقير على بعد أربعين كيلو متراً جنوب الخرطوم . فصارت تنقل بذرة القطن المباعة إلى شركات الزيوت ، إلى محطة الباقير حيث تنقل من هناك باللواري إلى مصانع الزيوت بالخرطوم بحري ، وبذلك جلبت دخلا كثيراً خفف من التكاليف التي كانت تخصم على حساب الشركاء الثلاثة : المزارعون – الحكومة الشركة الزراعية .
التعليم والفنون والآداب :
ظل التعليم النظامي قاصراً على مرحلتي التعليم الأولي والأوسط حتى عام 1945م حينما أنشئت مدرسة حنتوب الثانوي شرق مدني . وفي عالم 1956م تم تأسيس مدرسة مدني الثانوية للبنين . وبالنسبة لتعليم البنات يرجع الفضل للشيخ أحمد الحضري ، وهو من أصول معربه ، في تأسيس مدرسة أولية للبنات في عام 1938م وتأسست أول مدرسة ثانوية للبنات في عام 1960م . أما في مجال التعليم العالي فقد كانت ضربة البداية في عام 1975م حين أصدر الرئيس الأسبق نميري قراراً رئاسياً في 9 نوفمبر من ذلك العام بتأسيس جامعة الجزيرة وبالفعل بدأت مسيرة الجامعة الظافرة بخمس كليات قوامها (200) طالب وطالبة وكان أول مدير لها هو البروفسور محمد العبيد المبارك (1975-1985) م .
عرفت ود مدني الفن بكل ضروبه منذ وقت بعيد واشتهرت كذلك بالأدباء والشعراء والمطربين في مجال الغناء والإنشاد الصوفي (المديح) . ومن الشعراء تمثيلاً لا حصراً مولانا الشيخ مدثر البوشى ، وميرغني عشرية ، على المساح وعبد الرحيم أبو عاقلة . ومن رواد المسرح : عبد الرحمن البوشى ، الأمين كعورة ، جرجس عياد ، وكانت الجمعية الأدبية بود مدني والتي تكونت في الثلاثينات ، مجالاً للابداع الثقافي والعمل الوطني . وقد أسهم شعراؤها وأدباؤها في إذكاء روح الوطنية مما كان له أبلغ الأثر في نقل المد الوطني خارج المدينة . وآية ذلك أن فكرة مؤتمر الخريجين العام الذي تأسس في أم درمان في فبراير 1938م ، قد نبعت من الجمعية الأدبية بود مدني ممثلة في شخص المناضل الأستاذ : أحمد خير المحامي الذي وجه نداءً للخريجين بأم درمان من خلال محاضرته التي ألقاها بمقر الجمعية بعنوان : (واجبنا بعد المعاهدة ) أي معاهدة أغسطس 1936م بين انجلترا ومصر ، طالبهم بضرورة تكوين مؤتمر قومي يمثلهم في مثل هذه المباحثات بين دولتي الحكم الثنائي ، خاصة وأن مسألتي السودان والوجود البريطاني في قناة السويس ، كانتا من اهم ما ظل يطرح على طاولة المفاوضات بين الدولتين . وإن غياب السودان – كما أشار الأستاذ : أحمد خير – كانت نتيجة لعدم وجود كيان سياسي قومي يمثله في مثل هذه الظروف .
والظاهرة اللافتة للنظر أن المدينة تزخر بعدد وافر من الفنانين نذكر منهم على سبيل المثال : محمد سليمان الشبلى، مهدي حاج صالح ، عوض الجاك ، محجوب عثمان ، الخير عثمان ، محمد الأمين ، أبو عركى البخيت ، نادر أحمد الطيب ، أما الفنان لكبير إبراهيم الكاشف ، فهو يمثل مدرسة لحاله . وآية ذلك أنه انتقل بالفن الغنائي نقلة نوعية كبيرة ، فاقت إدراك معاصريه من الرواد ، ومازالت ألحانه وأغانيه تردد بأصوات مختلفة من مطربي الجيل الجديد .
هذا وقد توجت هذه النهضة الأدبية والفنية الزاهرة ، والمؤشرات الايجابية لتطور الآداب والفنون ، بإنشاء المجمع الثقافي للفنون والآداب بود مدني ، وذلك على أحدث طراز معماري ليتولي الإشراف على كافة ضروب الفنون والآداب بالمدينة وإقليمها .


رؤى الساعة 25
أفاضل الناس أغراض لدى الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
المتنبي


رؤى العدد :
أعظم الجهاد ... جهاد النفس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المؤلف

صورتي
عطبرة, نهر النيل, Sudan
مؤرخ وأستاذ مادة التاريخ بالجامعات السودانية