محتويات الموقع

الأربعاء، 9 ديسمبر 2009

أم المدائن: وداعاً ولدي .. يوسف محمد عبد الغني

أم المدائن:
وداعاً ولدي .. رب السيف والقلم إلى الجنان الأخ الإنسان .. الإنسان .. اللواء .م. يوسف محمد عبد الغني

وأفقد من فقدنا من وجدنا .. قبيل الفقد مفقود المثال
(المتنبي)

ودعت عطبرة ليلة الجمعة 13 من نوفمبر في جمهرة مسربلة بالحزن مفعمة بالأسى احد ابرز أبنائها ورموزها .. اللواء ركن .م. يوسف محمد عبد الغني الذي وافته المنية اثر علة لم تمهله طويلاً فذهب مبكياًً على مناقيه الجمة وشمائله الحلوة .. وصفاته النادرة.
ولد الراحل المقيم بمدينة عطبرة في مارس 1944م بحي أم بكول لاب كان يعمل بورش السكة الحديد، إثر تخرجه في مدرسة جبيت الصناعية وقد كنا أنداداً إذ سبقته إلى الوجود . بنفس الحي بشهر واحد وهكذا تقاسمنا ذكريات الطفولة وتزاملنا كذلك في المدرسة الغربية الابتدائية، انتقل بعدها الفقيد المدرسة الأميرية الوسطى، ثم رحل إلى أم درمان ليكمل دراسته الثانوية بمدارس الأحفاد. التحق بعدها بالكلية الحربية عام 1964م ضمن الدفعة (17) وكان من أشهر زملائه. فيها: اللواء الهادي بشرى، واللواء أحمد البشير، واللواء عبد الله عثمان، واثر تخرجه في عام 1966م عمل بالقيادة الشمالية بشندي، ومنها انتقل للعمل بجنوب السودان. وفي العام التالي واثر اندلاع حرب حزيران أرسل للعمل بالجبهة المصرية، عاد بعدها للعمل بسلاح المدفعية عطبرة، ومنها إلى الفاشر. وفي عام 1988م ساهم الفقيد في تحرير مدينة الكرمك الحدودية.
تتكون أسرة الفقيد من ثمانية أبناء: أربعة أولاد، وأربع بنات، عمر وهالة وهما من زوجته الأولى المرحومة الأستاذة: آمال على حسن التي كانت تعمل موظفة بالسكة الحديد. وعمر هو الآن موظف ببنك الخرطوم بالعاصمة وهالة تعمل بقناة النيل الأزرق. وبقية الأبناء من زوجته اشراقة أحمد شمس الدين وهم : خالد ، محمد، أحمد، آن، وروان . وكلهم بمراحل التعليم المختلفة.
أتيحت للفقيد الكثير من فرص التدريب المهني والإداري خارج البلاد في الهند وباكستان ولندن. وفي هذه الأخيرة حصل على ماجستير في الدراسات الإستراتيجية من كلية King College قسم دراسات الحرب Was studies تقاعد عن الخدمة في عام 1989م حيث تفرغ للقراءة والاطلاع، هوايته المفضلة التي عشقها منذ نعومة أظافره. خاصة في مجال التاريخ الذي أحبه على نحو مدهش، عمل وزيراً للصحة بولاية نهر النيل (2005 ـ 2007)م.
وكما كان الفقيد عسكرياً منضبطاً من الطراز الأول، أبلى بلاءاً حسناً في أداء رسالته المهنية والوطنية داخل وخارج البلاد، كان كذلك مؤرخاً هاوياً من الدرجة الأولى، اهتم بشكل أساسي بالترجمة لبعض الكتب التاريخية الهامة، خاصة تلك التي تتناول تاريخ وطنه وأمته. وقد أنجز كل ذلك بجدارة واقتدار بما أفاء الله عليه من علم وما أسبغه عليه من نعمة المعرفة وحب الآخرين وآية ذلك كما كان يردد دوماً. إن القارئ السوداني عامة والطلاب خاصة، لا يجيدون الانجليزية ولا يطيقون القراءة بها.
هذا ومن بواكير تلك الترجمات كتابان بالانجليزية، عثر عليهما الفقيد بإحدى مكتبات باكستان للواء أ0أ0 أكرم 0 الأول: عن خالد ابن الوليد، والآخر بعنوان: فتح فارس. وبعد الترجمة قام اللواء يوسف بطباعتهما بسوريا وجرى توزيعهما داخل السودان، خاصة بالجامعات والقوات المسلحة.
وعلى صعيد التاريخ الأوربي، قام الفقيد بترجمة كتاب هام بعنوان: بناة أوربا الحديثة الحديثة، Makes ot Madsen Europe لبروفيسور هولت P.M. Helt، والذي عمل شطراً من حياته الجامعية بالخرطوم، رفد خلالها المكتبة التاريخية السودانية بالعديد من الكتب عن تاريخ السودان، منها على سبيل المثال: دولة المهدية في السودان The Mahdist stats in the Sudan ، وتاريخ السودان الحديث A history at Madsen Sudan ، هذا بجانب إسهاماته الدءوبة المكثفة في دوربة السودان في رسائل ومدونات Sudan Notes and records والتي انتظمت في الصدور منذ عام 1918م وظلت كذلك حتى مشارف الاستقلال عام 1956م.
والكتاب موضوع الترجمة والذي نحن بصدده: بناة أوربا الحديثة: يتناول عصراً من أهم عصور التاريخ الأوربي، اعني عصر النهضة (1300 ـ 1600)م The Renaissance ، وآية ذلك انه العصر الذي إنعتقت فيه أوربا من ظلمات العصور الوسطى وراحت تخيل نفسها من أوضارها، وتحرر عقلها من خزعبلاتها وترهاتها، وانطلقت من ثم تبحث عن آفاق أوسع وأرحب بفضل جهود علمائها وأدبائها وفنانيها من أمثال: كوبرنيكس، جاليلو، ليوناردو دافنشي، كيكافلي... وغيرهم.
وعلى صعيد تاريخ السودان فقد قام الفقيد بترجمة كتابين هامين للغاية. الأول بعنوان: مصر في السودان Egypt in the Sudan لريتشارد هل Ritchard Hill وتغطي مادته فترة الحكم التركي ـ المصري في السودان (1821 ـ 1885)م، والذي رغم سلبياته الكثيرة إلا انه حقق انجازين هامين بالبلاد، فبجانب الحكم المركزي الذي انتظامها لأول مرة، فقد تم ضم الجنوب الذي ظل لأكثر من ثلاثة قرون بعيداً عن التأثيرات العربية والإسلامية السائدة في الشمال. كما تعزى أهمية الكتاب كذلك إلى شخصية مؤلفه ريتشارد هل الذي عمل في بداية خدمته بالبلاد بسكك حديد السودان حيث كان مأموراً للإدارة بمدينة عطبرة خلال الأربعينات من القرن الماضي. وقد كتب سفراً قيماً عن النقل في السودان Sudan Transport خاصة النقل الحديدي، ولولع هل ونبوغه في مجال الدراسات التاريخية انتقل ليعمل محاضراً بالكلية الجامعية بالخرطوم. وظل يساهم بانتظام في تحرير دوربة السودان في رسائل ومدونات.
أما الكتاب الثاني فهو بعنوان: تاريخ جنوب السودان (1839 ـ 1889)م A history at the southern Sudan لريتشارد قراي Richard Grey ويزخر الكتاب بمعلومات نادرة وقيمة عن ما كان يجري بالجنوب خلال الحكم التركي ـ المصري.
حقاً لقد كان الفقيد رباً للسيف والقلم وملاذاً للبسطاء والفقراء والمعسرين. ومصدراً لطلاب العلم والمعرفة. وعطفاً على ذلك لم يكن مستغرباً أن تغص ساحة العزاء أمام منزله بالمعزيين من أهل عطبرة الأوفياء الذين جاءوا من كل أطراف المدينة وضواحيها لأداء واجب العزاء.. وفاءاً وعرفاناً. كما توافد زملاؤه من رفقاء السلاح من الخرطوم تباعاً وفي طليعتهم رفيق دربه اللواء الهادي بشرى. هذا بجانب زملائه بسلاح المدفعية، على رأسهم قائد السلاح: اللواء أبو بكر محمد عثمان. أما ابن عطبرة البار الأخ الهادي محمد علي. المعتمد السابق فقد حضر من الخرطوم لا ليعزي فحسب، بل ليتلقى بدوره العزاء في صديقه الفقيد والذي كرمه من قبل في أمسية مشهودة بحدائق تلفزيون عطبرة 2007م وذلك حين منحه عربة جياد. (كرت).
كان المرحوم جم التواضع وافر العقل، عفيف اليد واللسان، قليل الكلام، يحب الناس ويؤثرهم على نفسه. كل ذلك لعلمه بتناهية في الزمان والمكان، وان الحياة، كما في بكائية الشاعر صلاح أحمد إبراهيم (نحن والردى ضل ضحى لا أكثر) :
آخر العز
طويل أم قصير
كفن من طرف السوق
وشبر في المقابر
كان الفقيد حتى بعد أن أصبح وزيراً، يرتاد مقهى الأخ (عادل ود البيه) الأكاديمية كما يحلو لي أن اسميها، حيث مكان انه وترويحه مع أصفيائه وأصدقائه البسطاء الطيبين من أهل بابل كما يسميهم لكثرة جدلهم ومبارزتهم الفكرية، زرقاني، يحي، الملة، ناصر، خالد، والمايسترو ود البيه.
فقدنا فيك أخي يوسف، الطهر والنبل، والإخاء الجميل، فقدنا فيك الإنسان .. الإنسان .. جعل الله مثواك الجنة مع الشهداء والصديقين .. وسنظل أبداً .. مستبشرين ومبشرين بكم أيها الفقيد العزيز..

رؤى الساعة 25 أبو ماضي
لا تقلقي يوم النوى أو فأقلقي
يا نفس كل تجمع لتفرق
الله قدر أن تمس يد الأسى
أرواحنا كيما ترف وترتقي

هناك تعليقان (2):

  1. إنه جهد المقل..
    أستاذي الكريم الدكتور عثمان السيد، ارجو ان يكون جهدي القليل في إنشاء هذا الموقع مقبولا لديك من تلميذ سره أن يطلع أكبر عدد ممكن من الناس على ما يخطه قلمكم من علم ينير العقول ويفتح الآفاق ويحفظ لبلادنا إرثها وتاريخها ويجعل لحضارتها قيمة ملموسة..
    مع كامل تقديري

    عبد الله حمد

    ردحذف
  2. حفظ التاريخ والارشفه باقلام مقتدره تحركها عقول مستنيره وحياديه

    ردحذف

المؤلف

صورتي
عطبرة, نهر النيل, Sudan
مؤرخ وأستاذ مادة التاريخ بالجامعات السودانية